خيرالله خيرالله

هل بلغ الدور ليبيا؟ الجواب نعم كبيرة بعدما صارت ليبيا في عين العاصفة. انتهت quot;الجماهيريةquot; وعادت ليبيا. أي ليبيا بعد quot;الجماهيريةquot; التي لم تكن سوى شعار فضفاض لتبرير سيطرة رجل واحد وحيد اسمه معمر القذافي على السلطة والثورة ومقدرات البلد بالتفاصيل المملة؟ المطروح الآن هل تبقى ليبيا واحدة موحدة أم تتحول ولايات ثلاث أو أقاليم ثلاثة في اقلّ تقدير؟...
لا يمكن تجاهل أن ليبيا مختلفة عن مصر وتونس لأسباب عدة في مقدمها أنها مجتمع عشائري وقبلي ومناطقي الى حدّ كبير. سيبقى هناك، في طرابلس والمناطق القريبة منها، من يدافع عن العقيد معمر القذّافي ونظامه لفترة طويلة في غياب مفاجأة كبيرة تتمثل في دخول قوة خارجية على خط ضبط الأوضاع الداخلية في ما كان يسمّى quot;الجماهيريةquot;. قد يتمكن القذافي من الذهاب الى قبيلته في سبها أو سرت والبقاء في حمايتها حتى أيامه الأخيرة، تماماً كما فعل قبله الرئيس الصومالي محمد سياد بري في العام 1991 حين فرّ من مقديشو ولجأ الى قبيلته. الفارق بين ليبيا والصومال أن المجتمع الدولي يمكن أن يتدخل في ليبيا نظراً الى أنها غنية بالنفط والغاز.
أياً تكن نتيجة الأحداث الأخيرة في ليبيا، دخل البلد مرحلة جديدة. انتهى نظام استمرّ اثنين وأربعين عاماً قام على شخص واحد أمسك بكل مفاصل الدولة. يرفض القذافي أخذ العلم بذلك. بالنسبة اليه، لم يتغيّر شيء. لا يزال العقيد يعتبر نفسه ذلك الضابط الذي استولى على السلطة في العام 1969 مع مجموعة من رفاقه الذين تخلص منهم الواحد تلو الآخر معتمداً على دهائه وقدرته على اللعب على التناقضات.
السؤال الكبير الآن هل في الإمكان إعادة بناء البلد ومؤسساته بعد سنوات طويلة كان همّ القذافي خلالها محصوراً في تدمير مؤسسات الدولة بدءاً بالجيش وصولاً الى وزارة الخارجية مروراً بكل ما له علاقة بالاقتصاد والتنمية والتعليم والانفتاح على العالم. نجح الى حد كبير في إقامة نظام يسهل عليه التحكم به من خلال المال والأجهزة الأمنية المرتبطة به مباشرة. كانت قوة القذافي مستمدة من تحكمه بالصندوق الذي يحوي عائدات ليبيا من النفط والغاز يغدق منه على من يشاء ويحرم من يشاء!
لماذا انتهى القذافي بهذه الطريقة؟ لا يمكن في أي شكل الاستخفاف بذكاء الرجل وقدرته على المناورة داخلياً وتاليب القبائل الليبية على بعضها بعضاً. ربما كان القذافي أفضل من يعرف ليبيا والليبيين. لكن مشكلته الأساسية تكمن في أنه لم يعرف يوماً أن هناك نظاماً دولياً ليس في استطاعة دولة لا تمتلك سوى ثروة نفطية التغلب عليه. لعب القذافي في فلسطين ولعب في لبنان وفي دول افريقية عدة، خصوصاً تشاد، ووصل حتى الى الفيليبين وايرلندا. اختار التعاطي مع أسوأ الفلسطينيين واللبنانيين. أقام تحالفاً مع إيران ومدها بالصواريخ خلال حربها مع العراق. كانت صواريخ القذافي تسقط على بغداد. هل كان كافياً أن يكون هناك عداء بينه وبين صدّام حسين كي تسقط صواريخ ليبية على بغداد؟
دخل القذافي عالم الإعلام باكراً. أسّس صحفاً ومجلات في بيروت وباريس وغيرهما صرف عليها الملايين لكنه لم يُحسن استخدامها. لم تكن لديه يوماً سياسة متماسكة في أي مجال. لا في الإعلام ولا في السياسة. أما رؤيته للاقتصاد فكانت شبه معدومة. أعتقد دائماً أن الإلغاء الجسدي يمكن أن يحل مشاكله مع معارضيه وأن ضرب المؤسسات الاقتصادية وتدمير النسيج الاجتماعي للمجتمع سيضعان جميع الليبيين تحت رحمته. لم تحل الاغتيالات أي مشكلة، لا قتل المعارضين في الداخل والخارج ولا التخلص من شخصيات في حجم الإمام موسى الصدر. لم تنفع القذافي الاستعانة بتنظيم إرهابي تابع لـquot;أبو نضالquot; ومن على شاكلته من زعماء المنظمات الفلسطينية والتي لا همّ لها سوى الإساءة الى لبنان واللبنانيين... وقضية فلسطين!
اهتم القذافي بكل شيء باستثناء رفاه الليبيين وتحسين أوضاعهم. ربط استمرار نظامه بإبقاء المواطن الليبي بائساً وفقيراً ومتخلفاً كي يظل تحت رحمته. تحدث عن الإصلاحات متأخراً. راهن حتى على التنافس بين أبنائه على خلافته فأخرجهم جميعاً من لعبة السياسة.
لم يفهم حتى معنى تخلصه من العقوبات الدولية وأبعاد ذلك، لا بعد تسوية قضية لوكربي، التي سيتبين يوماً أنه لم يكن مسؤولاً عنها وحده، ولا بعد تخليه عن أسلحة الدمار الشامل. لم يفهم أن الإصلاحات الجذرية وذهابه الى بيته كانت وحدها كفيلة بانقاذ نفسه وأنه كان عليه السير فيها الى النهاية، خصوصاً بعد استسلامه للأميركيين مستخدماً، ربما للمرة الأولى، عقله وموازين القوى القائمة على الأرض. لا يمكن أن تستسلم للأميركيين وأن تنقلب عليهم في اليوم التالي بحجة أن كل ما يريدونه هو نفط ليبيا.
قد يبقى القذافي زعيماً على إحدى المناطق الليبية كما قد تلاحقه العدالة الدولية. كل ما يمكن قوله إن هناك ليبيا جديدة انتصرت على quot;الجماهيريةquot; بكل ما تمثله من تخلف. عادت ليبيا الى ليبيا بفضل شعبها المتمسك بثقافة الحياة. هل تبقى موحدة؟ هل هناك مجال لإقامة نظام ديموقراطي حقيقي، أم ينتقم القذافي على طريقته من الشعب الذي ثار عليه على طريقة انتقام سياد بري من الصوماليين؟ علينا أن نتذكر دائماً أنه منذ العام 1991، لم تعد هناك دولة في الصومال!