راجح الخوري

في نهاية شهر نيسان من عام 2000 تعمّد الرئيس الاميركي سابقا بيل كلينتون ان يشارك في اجتماع خاص عقدته جمعية رؤساء تحرير الصحف الاميركية، وكان موضوعه المحوري: quot;الانفجار الاعلامي وضمان حسن المعرفة عند الناسquot;!
كان ذلك في بداية ثورة المعلومات والتقدم الخرافي في تقنيات الاتصال الذي جعل العالم كما قيل في حجم شاشة الكومبيوتر، بعدما سقطت الجغرافيا وانهارت السدود أمام quot;المعلوماتquot;.
يومها طرح كلينتون على رؤساء التحرير أسئلة مهمة جدا تبدو الآن في ظل الثورات التي تجتاح الدول العربية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى:
quot;وسط السيل الكاسح من المعلومات التي تفوق التخيل عبر الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة، كيف يمكن ان يساهم هذا الانفجار في تطوير المعرفة والمجتمع. ومن يدل الناس الى الاخبار والوقائع الصحيحة ويحدد الاخبار السيئة والمغرضة والوقائع المحرفة التي تهدف الى التخريب لا بل التحسينquot;؟

❐ ❐ ❐

الآن مع اندلاع الانتفاضات والثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والى حد ما في الجزائر والمغرب والاردن، لم يعد هناك شيء اسمه quot;البلاغ رقم 1quot; وquot;مجلس قيادة الثورةquot;، بل أصبح هناك شيء اسمه تدفق الجماهير الشابة عبر quot;فايسبوكquot; وquot;تويترquot; وغيرهما من الوسائل التي تتيح لأي انسان ان يقول ما يشاء عمن يشاء وفي أي وقت يشاء، وأن يعلن ثورة ويعرض سيلا من الاتهامات والمطالب والتحريض قد تكون صحيحة محقة وضرورية وتستدعي قيام الانتفاضة والثورة وقد لا تكون!
ليس سرا ولا مبالغة القول إن quot;فايسبوكquot; صار منبرا لاعلان الثورات واستقطاب الجماهير المقموعة والمضطهدة والمهانة، على ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. وليس سرا مثلا أن قناة quot;الجزيرةquot; التي تملكها قطر وكذلك قناة quot;العربيةquot; التي تملكها السعودية، دخلتا سباقا على مدار الساعة لدعم انتفاضة الجماهير في هذه البلدان. ويمكن القول ان ما قدمته quot;الجزيرةquot; من بث متلاحق منذ أعوام أضاء على الاوضاع في مصر وتونس وليبيا وهيّأ أو حرّض الناس على التحرك، ثم ما قدمته quot;العربيةquot; من مواكبة لهذه الانتفاضات، انما يتقدم على كل ما فعلته الاحزاب المعارضة والمعارضات في هذه البلدان الثلاثة، التي كانت المعارضة مقموعة فيها وكان الناس في فقر وبؤس واضطهاد ومهانة.

❐ ❐ ❐

أمام هذا الواقع القائم والمستمر تحولت عملية اعلان الانتفاضات والثورات وتوجيه الاتهامات الى الحكام والانظمة على صفحات quot;فايسبوكquot; في بعض فصولها موضة أو أمرا مستغربا ومضحكا، وخصوصا عندما وجد بعض المعارضين في قطر مثلا أو في الكويت او في السعودية ان الموسم هو موسم الثورات quot;الفيسبوكيةquot;، فسارعوا الى فتح صفحات بهذا المعنى وحددوا مواعيد للتحرك وهو فعلا ما يدعو الى التأمل. فلقد كان مضحكا مثلا الدعوة الى quot;ثورة مليونيةquot; في قطر التي لا يزيد عدد سكانها عن 350 الفا، معروف أنهم يتمتعون بأعلى نصيب من الدخل القومي في العالم. وقد وفّر لهم النظام ميزات من الرفاهية الاجتماعية ومن فرص التعليم الجامعي والطبابة والعمل والنمو والازدهار ما لم يحصل عليه أي مواطن في الديموقراطيات الغربية. ولا حاجة الى الحديث عن مؤشر التنمية والازدهار في هذه الامارة، ولا عن الدور المؤثر الذي يضطلع به الشيخ حمد بن خليفة في المنطقة والخارج، ومع هذا فان الثورة quot;الفايسبوكيةquot; لم توفره!
أما في الكويت وهي أول ديموقراطية في الخليج لها انتخاباتها ومجلس أمتها ولها تقديماتها الهائلة لكل مواطن كويتي الآن وفي المستقبل عبر quot;صندوق الأجيال المقبلةquot;، فان كل حديث quot;فايسبوكيquot; يشكل مسخرة طبعا، لان ما يوفره الحكم في الكويت للمواطنين ليس متوافرا تقريبا في أي بلد آخر وعلى كل الاصعدة: الاسكان، الصحة، التعليم، الوظائف، الرفاهية. والنمو الذي كان يمكن ان يكون مضاعفا لولا المناكفة المفتوحة لبعض من في السلطة التشريعية ضد الحكومة.
ويكفي هنا قراءة بيان أمير الكويت الشيخ صباح، لا عن تقديمات الدولة الى المواطنين بل عن خطته للمستقبل والتطوير وذلك لمناسبة ذكرى التحرير، كي يعرف تماما حقيقة ما تحققه الديموقراطية في الكويت.

❐ ❐ ❐

أما في المملكة العربية السعودية، فمن الواضح والمفهوم لدى الجميع تقريبا، ان خادم الحرمين الشريفين باشر منذ بداية عهده مبدأ الحاكم الذي يقرع باب الاصلاح قبل ان يقرع الاصلاح أبوابه، وفي هذا المجال بدأ بتطبيق مسار اصلاحي مدروس ومتأن يناسب كيمياء المجتمع السعودي المحافظ كما هو معروف ويتبنى الرغبة في التطوير والتغيير عند أجياله الطالعة.
وليس سرا أنه قبل نشوب الانتفاضات العربية بزمن باشر سلسلة من الاصلاحات المهمة في التعليم والمناهج وفي القوانين والاقتصاد والتنمية التي بدأها بخطة أولى قبل عامين قيمتها 100 مليار دولار تصرف في أرياف المملكة. ومع عودته من مشفاه استأنف هذه الخطة مضاعفا أهدافها وسرعتها وتقديماتها.
ولا ريب الآن في أن النداء أطلقه 123 مثقفا سعوديا والذي يطالب بتطبيق اصلاحات واسعة في المملكة وقد وقعه أكاديميون وباحثون معروفون، سيكون موضع عناية الملك عبدالله، الذي أكد عمليا منذ وصوله الى السلطة أنه يرسم مسارا اصلاحيا يناسب كيمياء المجتمع المحافظ من جهة وطموحات الاجيال الطالعة من جهة ثانية.