رياض نعسان أغا

لم تكن أمراض النظام العربي خافية على أحد من قادته، كان المسؤولون أنفسهم يشكون في اجتماعات القمة من خطر التردي الذي أصيب به النظام، ولم يفلح بعض القادة العرب في تحقيق ما سمي الحد الأدنى من التضامن العربي أمام التحديات الكبرى التي واجهت الأمة فهانوا وصغروا أمام شعوبهم، ولم تكن تداعيات جريمة 11 سبتمبر بداية لها، وكان الفلسطينيون قد بدأوا في الثمانينيات ثورتهم في وجه الظلم والاحتلال، ولم يحسن بعض القادة فهم وتفسير معنى الانتفاضة، وظنوا أن الشعوب تثور في وجه إسرائيل فقط، ولكن من المحال أن تثور في وجههم، وأذكر حواراً دار بيني وبين أحد كبار القادة الذين يهتمون بإرضاء الصهيونية أكثر مما يهتمون بإرضاء شعوبهم حين قال أمام جمع من رجال السياسة الرسميين وكنت أحدهم بوصفي سفيراً لبلادي يومذاك quot;إن أسوأ منظر في الوطن العربي هو منظر طفل يحمل حجراً ليواجه دبابة، بينما ينبغي أن يحمل الطفل كتابه وأن يمضي إلى مدرستهquot;، يومها أثنى بعض زملائي السفراء على عبقرية المسؤول العربي الكبير، ولكنني شعرت بالاختناق وقلت له quot;إن لي رأياً مختلفاً يا سيدي، فأنا أنصح بأن تشجعوا هذا الطفل، فإن منعتموه من رميها على الدبابة الإسرائيلية فقد يفرغ طاقة غضبه ويرمي حجره على من منعهquot;.

وعلى رغم أن الثورات التي يشهدها الوطن العربي اليوم لم تطرح قضية الصراع العربي الصهيوني في شعاراتها، لكن الثورة ضد الظلم والاستبداد تحمل مضموناً واحداً هو المقاومة لمن يغتصب الحق، وهذا ما يجعلني أرى الثورات في جانب عملي امتداداً للانتفاضات الفلسطينية الرائدة، ولاسيما ثورة ليبيا التي يواجهها القذافي بما لا يقل قسوة عن مواجهات الإسرائيليين للفلسطينيين، مما دعا الشارع العربي إلى الظن بأن أصول القذافي ليست عربية ولا مسلمة لأنهم لا يصدقون أن عربيّاً مسلماً يمكن أن يفعل بشعبه ما يفعل القذافي. لقد تجاوز عدد الشهداء والجرحى الليبيين حتى تاريخ كتابتي لهذا النص (الأربعاء 9/3/2011) ستة أضعاف عدد شهداء الحرب الإسرائيلية على غزة، وأربعة أضعاف شهداء حرب يوليو عام 2006. وعلى رغم أن مواجهة بن علي ومبارك لثورة الشعب أقل وحشية فإن عدد من استشهدوا من الشعبين التونسي والمصري على يد قوى الأمن وquot;البلطجيةquot; يضاهي عدد شهداء الانتفاضة الثانية الذين قتلوا على يد الإسرائيليين.


وإذا كانت ثورة مصر قد بدت زلزالاً في قلب الأمة فإن الهزات الارتدادية في المنطقة لابد أن تحدث تغييراً ليس في اتجاه إصلاحات شكلية فقط، وإنما في اتجاه تجليات فكرية تتعلق بعقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، فلم يعد احتكار السلطة مقبولاً، ولم يعد ممكناً أن يستمر أي نظام في قمع حريات التعبير، كما لم يعد ممكناً تجاهل الهوة التي تكبر وتتسع بين المنتفعين الذين يقبضون على عنق الاقتصاد كما في أسرة مبارك وحواشيها، أو في أسرة بن علي وزوجته وأهلها، وبين طبقات تعيش تحت خط الفقر، أو حتى بين طبقة متوسطة تئن من عسر تكاليف الحياة، وتجرح في كرامتها، هذا فضلاً عن مشكلات البطالة حتى في صفوف الخريجين بسبب إخفاق هذه الأنظمة في تحقيق نهضة زراعية أو صناعية أو سياحية أو خدمية متفوقة، لأن المتنفذين القابضين على عنق الإدارة والاقتصاد لا يريدون أن يخرج شيء من أيديهم.

وأهم ما كشف عنه الانهيار الحادث في النظام العربي فشل خطة ممالأة الغرب والدوائر الصهيونية التي نفضت يدها سريعاً من الأنظمة المنهارة، وكانت من قبل تقدم وصفات إصلاحية سخيفة اختصرت قضايا المنطقة في مكافحة الإرهاب وفي إقناع عدد من القادة العرب بأن عدوهم الضخم هو المقاومة التي سميت إرهاباً، وبأن الخطر الذي يتهددهم هو الإسلام وليس الدولة اليهودية.

إن الأقاصيص المثيرة التي فضحت تصرفات أسرة مبارك وأسرة بن علي وعائلة زوجته، لم تكن جديدة على الناس، ولكنهم لم يكونوا يجرؤون على تداولها علانية، ولكنها اليوم تملأ صفحات الإنترنت، هذا فضلاً عن الفظائع التي انتشرت عن حجم فساد أجهزة أمن الدولة في تونس ومصر، مما دعا الثوار إلى الهجوم عليها، ودعا ضباطها إلى إحراق مبانيها وإتلاف الوثائق التي تدينهم، ودعا الوزارات الجديدة إلى المسارعة بحل هذه الأجهزة المستبدة التي ارتكبت من الفظائع ما يدهش البشرية وما يخجل العرب أمام شعوب الأرض.

ولقد سارعت بعض الدول العربية لدرء الفتنة وصد شرر الثورات، ولكن العلاج الحقيقي يكمن في الإعداد لميثاق وطني وعقد اجتماعي جديد، يحقق العدالة في الاستناد إلى حق المواطنة وحدها، ويحجب إمكانية ظهور سلطة مطلقة لأنها مفسدة مطلقة، ولابد من تجاوز الشعارات المسبقة والإيديولوجيات التي تجاوزها التاريخ والواقع، وقد أظهرت الثورات العربية عقم النظريات التي طالما رددها بعض المثقفين المستغربين، وأثبت الواقع أنها لم تكن تعني أحداً سواهم، فثمة ثوابت أساسية رسخت في الوجدان العربي، ظن بعضهم أن بوسعهم هزها، وبعضهم راح يحلم ببناء أجيال جديدة معلبة وفق وصفات أوروبية أو أميركية يشرف على تصنيعها بعض سفراء الغرب أو بعض منظماته الثقافية التي لم تفهم أن النخب المستغربة التي تتجاهل العروبة والإسلام لم تعد قادرة على صنع المستقبل العربي، لأن الإرادة الشعبية باتت هي صاحبة القرار، ولعل أهم درس أوضحته الثورات هو أن الإسلام حي في نفوس الناس، وأن من يحاربونه يعانون اليوم من مرارة الخيبة، ولاسيما حين يرون ملايين المصلين من الشباب يؤدون الصلاة في الميادين والساحات العامة وبخاصة في يوم الجمعة الذي سماه العرب قديماً يوم العروبة. وهؤلاء المصلون ليسوا بالطبع من quot;الإخوان المسلمينquot;، ولكن العرب عامة يحبون إسلامهم ويجدون فيه هويتهم الثقافية، ويفهمون أن الحكم مسألة مدنية وليست دينية، وأن الإسلام أقام أول دولة مدنية في العصر الأموي، ولكن بعض الغرب من أنصار إسرائيل يكره الإسلام لأنه دين يدعو إلى العزة ويرفض أن يقف المسلمون أو المسيحيون المؤمنون أذلاء على أبواب الصهاينة، والله يخاطب المؤمنين جميعاً بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ).