شريف عبدالغني

(لعب النظام لعبة خبيثة طوال الثلاثين عاما الماضية، حيث عمل على نشر ثقافة الفساد بين عموم الناس.. النظام يترك كل واحد laquo;يقلب عيشهraquo; أي يتكسب مثلما يريد. الموظف يرتشي، وعسكري المرور يمد يده، والتاجر يغشّ، ورجل الأعمال يسرق، والمدرس يمصّ دم أولياء الأمور عبر الدروس الخصوصية، والصحافي يعمل لحساب المصدر الذي يغطيه لا لحساب جريدته والقراء. أما السبب فهو أن السُلطة الفاسدة تعمل على إفساد الشعوب حتى تغض النظر عن فساد أولي أمرها.. مشكلة مصر الإضافية أن نخبتها قد لا تقل فسادا عن سلطتها. فمعظم الأحزاب القائمة هي صنيعة رجال الحكم لاستكمال الديكور الديمقراطي، وعدد كبير من المعارضين يؤدون دورا مرسوما لهم، وبعضهم كان حكوميا وذهب ليأخذ نصيبه من laquo;تورتةraquo; السلطة، فلما لم يجد laquo;فتفوتةraquo; واحدة منها ثار وغضب واتجه لمطبخ المعارضة).. هذا ما ذكرته نصا في مقال بـraquo;العربraquo; نشر بتاريخ 13 أغسطس 2010، وأرجو ألا يظن القارئ أنني أفعل مثل بعض كتبة نظام مبارك في مصر، والذين أوصلوه إلى درجة نصف الإله، وحينما ولّى عهده انقلبوا عليه دون حُمرة خجل، وبوقاحة لعبوا دور المبشرين بالثورة، وراحوا يستحضرون فقرات من مقالات سابقة ويخرجونها من سياقها ليؤكدوا عدم رضاهم عن الأوضاع في عصر المخلوع، مفترضين غباء القارئ.
ما ذكرته في المقال المشار إليه بشأن فساد النخبة في مصر لم يكن تعميما، بل قصدت أن قطاعا منهم لا يقل تلوثا عن السلطة نتيجة لنشر نظام مبارك ثقافة الفساد بين الناس حتى يكسر عين الجميع. هذا التحليل كان ناتجا عن معلومات نتداولها دون وجود وثائق تؤكدها. لكن بعد انفجار ماسورة الوثائق المخفية من مقار عصا مبارك الغليظة المعروفة باسم laquo;جهاز أمن الدولةraquo;، أصبحت الأمور واضحة laquo;وعلى عينك يا تاجر واللي ما يشتري يتفرجraquo;.
ما تسرب عن بعض المعارضين والإعلاميين الذين يقدمون أنفسهم على أنهم مستقلون وضد النظام، ليس جديدا كما قلت، مع ملاحظة أن يد هذا الجهاز المرعب تدخلت لتلعب دورا خبيثا وادعاء معلومات حول شخصيات تحظى بالسمعة الطيبة، بهدف تشويه صورتهم، ورغم الاختلاف مع كثير من مواقف هذه الشخصيات فإن هذا لا يمنع من نظافة سيرتهم.
التأكد من صحة هذه الوثائق وما هو منسوب فيها يحتاج إلى لجان تحقيق، فضلا عن أنه من السهل تزوير أي ورقة ووضع خاتم أمن الدولة عليها في ظل الفوضى الحالية، وهنا يختلط الحابل بالنابل، والشريف بالأفاق. واضح تماما أن هناك تعمدا لتداول حكايات جنسية رخيصة، وكأن المقصود هو شغل الناس بسفاسف الأمور وحكايات النميمة، وترك الملفات الأخطر، فلم تخرج من مقار أمن الدولة ضمن آلاف الأوراق التي خرجت أي وثيقة عن سرقات الأراضي التي حولت بضعة أفراد إلى أباطرة ومليارديرات في غمضة عين. لم تتسرب وثيقة عن بيع شركات ومصانع القطاع العام برخص التراب، ولا عن العمولات والرشاوى التي حصل عليها مسؤولون مقابل سيطرة حفنة من رجال الأعمال على المشروعات العملاقة. كما أخفوا أوراق كل الأموال والميزانيات الضخمة التي خصصها مبارك لأفراد الجهاز حتى لا يحموا أمن الدولة بل يسهرون على حماية أمن النظام ورأسه ومقدمته ومؤخرته. طمسوا أوراق كل هذا وتركوا ورقة حول علاقة أحد أشهر شخصيات النظام السابق بمذيعة معروفة، وحكاية ناشط سياسي نسبوا إليه مكالمة تليفونية غير بريئة قد تدمر علاقته الزوجية، فضلا عن عصا موسى التي ستلهى الجميع بحكاية فيها كل التوابل وستظل على الألسن فترة طويلة، والتي تخص العلاقات النسائية لرجل دين بارز وما تردد عن زواجه عشر مرات، وعدم إطلاع المأذون على ورقة طلاق إحدى النساء قبل تزويجها منه. والمؤكد أن كل ما سبق سيكون حديث المجتمع والمادة الدسمة في الفضائيات، وكأن المراد من تسريب هذه الأوراق أو تركها عمدا أن يأكل المصريون لحم بعضهم البعض وينسوا جرائم نظام مبارك، ونهبه وتخريبه للبلد.
والملاحظ أنه لم تظهر أي وثيقة حتى الآن عن الصحافيين المعروف أن الأمن يرعاهم ويوجههم ويلقنهم ما يكتبون أو يتلفظون، بينما تم تسريب ما يدين أسماء أخرى تحظى بدرجة من الاحترام عند العامة، لكن الأيدي التي أصدرت أوامر سحب الشرطة من الشوارع وفتح السجون وإطلاق البلطجية والمسجلين خطرا وتسليحهم بالرشاشات لتلقي بالبلد في أتون الفوضى والبلطجة، هي الأيدي نفسها التي تمتد الآن لتكشف laquo;أحشاء مصرraquo; وإشاعة الأسرار والمعلومات الصحيح منها والملفق، والمقصود من كل ذلك اختطاف المصريين من استكمال ثورتهم، وإتاحة الفرصة لخفافيش الثورة المضادة لتشويه شخصيات حظيت بقبول الناس خلال فترة رحيل مبارك، ومن ناحية أخرى إرباك هذه الرموز سياسيا واجتماعيا وإنهاكها في معارك الدفاع عن شرفها وسمعتها.
يجب أن ينتبه الجميع أنه حتى الصحيح من هذه الوثائق يشكل إدانة لمبارك وليس لمن وردت أسماؤهم فيها. فعصره لم يكن يسمح للشرفاء بالظهور. انزووا جانبا وهم يرون مقومات الصعود لا تتوافر فيهم. المعارضون الحقيقيون حاصروهم بالاعتقالات، ومن ملؤوا الساحة هم صنيعة أجهزة الأمن لزوم الديكور الديمقراطي، ومن تولوا المؤسسات الإعلامية روعي أن يكونوا متسلحين بكل أنواع الجهل حتى يشعر الرئيس وحاشيته بالعظمة والفكر حينما يجلسون معهم.
إن المقصود من وراء كنز laquo;الفضائحraquo; المفتوح في مصر حاليا ألا يسأل أحد عن كيفية استعادة مليارات الدولارات التي ذكرت تقارير إعلامية غربية أنها ثروة لأسرة مبارك، ولكن أن يسأل الجميع عن مصدر فحولة laquo;مولانا الشيخraquo; الذي يتزوج عشر نساء؟!