د. محمد مطلب الهوني

تحيّة للملايين التي أفاقت من سباتها ودلفت إلى معارجها تعبّدها بالدّم والألم والدّموع...
أكتب إليك هذه الرّسالة المفتوحة لأنّه أصبح من المتعذّر أن أخاطبك وجها لوجه، لأنّنا نقف على ضفّتين متقابلتين، ولأنّ يديّ لم تعودا قادرتين على مصافحتك. نقف على ضفّتين متقابلتين لنهر الدّماء المتدفّق من جسم الوطن.
إنّ أسوأ ما في الدّول الشّموليّة عندما يعصف بها جنون الاحتضار ألاّ تترك أيّ هامش إنسانيّ : فإمّا أن تكون مع الوطن وإمّا أن تكون مع أعدائه، وهذا هو الخيار القاسي، وهذه هي النّهايات المروّعة.
لقد كنت معك وإلى جانبك أكثر من عشر سنوات، وكنت معتزّا بذلك، لأنّك كنت نظيف اليد من دماء اللّيبيّين وأموالهم وأعراضهم. كنت حالما ككلّ شباب ليبيا بالازدهار وحقوق الإنسان والحرّيّة، كنت تقاتل كلّ يوم من أجل رفع المظالم عن النّاس، وإطلاق مساجين الرّأي، وقد أطلقت مئات منهم. وأنا خير من يعلم بما كنت تعانيه من صلف النّظام وغطرسته، وأراجيف الأجهزة الأمنيّة وتصلّبها. وكنت تتألّم وأتألّم معك، وكنت دوما أشدّ أزرك وأشجّعك على المضيّ إلى الأمام، عسانا نوفّر للوطن محنة كالتي نعيشها الآن...
وفي لحظة رهيبة، جاء ذلك الخطاب في تلك اللّيلة المشؤومة، الخطاب الذي هدّدت فيه الشّعب اللّيبيّ بالحرب الأهليّة وبتدمير النّفط والاحتكام للسّلاح، واخترت موقعا من الصّراع لا يقبل اللّبس ولا المواربة. فأنت أخيرا قد اخترت الباطل بعد جولات لك في نصرة الحقّ. وفوجئت، كما فوجئ كلّ من يعرفك في الدّاخل والخارج، وكنّا في ذهول من هذه الصّدمة العنيفة، لا نعرف من نصدّق : سيف الأمس أم سيف اليوم.
نعم، لقد كنت نظيفا خارج هذا النّظام بالأمس القريب، وها أنت اليوم تلبس جلباب أبيك المتّسخ بفعل أربعة عقود من العمل في مذابح ومسالخ الدّكتاتوريّة وورش القمع والعسف الذي كنت تنتقده... يا لخيبة المسعى !
لقد حدّدت مصيرك وها نحن على مفترق الطّرق في هذه الأيّام العصيبة من تاريخ ليبيا تتحدّد مصائرنا وترمي بنا الأقدار كلاّ في سبيله.
كان أحد الأصدقاء يقول لي دوما إنّك أجمل من أن تكون ابنا لهذا الإله المكفهرّ، وكنت أردّ بأنّ صلة قرابتك بالوطن أقوى من أواصر الدم ووشائج الجينات. غير أنّني أعترف بأنّني خسرت الرّهان بعد أن ابتلعتك دوّامة العصبيّة إلى غياهب البؤس والعدميّة.
كنّا نعاني معا شطط الشّمولّيّة وظلم الاضطهاد، وكنت لنا مشكاة نخاف عليها من الانطفاء وكنّا نحميها من أعاصير الحقد وعواصف الاستكبار، وكنّا نتقاسم الخبز والخيبات حتّى قرّرت أن تترحّل عنّا وتنضمّ إلى خندق العناد والمكابرة. أمّا نحن، فليس لنا مكان غير معسكر المستضعفين...
إنّ هؤلاء الشّباب الذين يقتلون في طول البلاد وعرضها ليس لهم من ذنب سوى أنّهم طالبوا بكرامتهم وحرّيّتهم التي كنت تطالب بها أنت نفسك وعلى رؤوس الأشهاد، وعندما هزمت وهزمنا معك في تلك المعركة، هبّ هؤلاء الشّباب الجبابرة ليحقّقوا أحلامهم بالدّم لا بالاستجداء.
لا أعتقد أنّك صدّقت تلك الفرية الكبرى بأنّ هؤلاء الشّباب الذين يتهافتون على الموت مدفوعون بفعل حبوب الهلوسة كما قال أبوك. لماذا لا تقتصدوا على الأقلّ في هذه الكلمات التي تغتال الشّباب للمرّة الثّانية بعد تقتيلهم بالرّصاص؟ ألا يكفي موت واحد؟ لماذا هذا الإمعان في فنون الإفناء؟
كلّ من حولك الآن يتكلّمون عن الانتصار. الانتصار على من؟ على شعبك؟ على الشّباب من جيلك؟ لكي يتحقّق ماذا؟ هل تريدون أن تصنعوا عرشا من الجماجم وصولجانا من الأشلاء؟
بئس الانتصار وبئس الحكم العضوض المبنيّ على قرّة الشّوكة في الألفيّة الثّالثة للميلاد. إلاّ إذا صدّقت أخيرا التّقويم السّنويّ اللّيبيّ الذي وضع على جوازات سفرنا وأوراقنا الثّبوتيّة بأّنا ما زلنا نعيش في القرن الخامس عشر !
إنّ الشّعب قد رزح تحت أربعة عقود من غياب الدّيمقراطيّة، وبقدر تحمّله لهذه الفترة الطّويلة فلن تكون له قدرة على تحمّل كلّ الأهوال لتحقيق مطالبه المشروعة...
سوف ينتصر الشّعب، وكنت أتمنّى لو كنت في صفوفه تحتفل بانعتاقه وتكحّل عينيك بشمس حرّيّته، ولم تكن في الصّفّ الآخر الذي يحلم بالرّقص على أشلاء الوطن في وهم انتصار مستحيل.

د. محمد مطلب الهوني
المستشار المقرّب من سيف الإسلام