شريف عبدالغني

طوال عصر حسني مبارك، كانت الأوساط السياسية والإعلامية المصرية تتداول همسا أن القائمين على ملف الأقباط الشائك -وفي مقدمتهم جهاز أمن الدولة- لديهم قناعة بأن ولاء القبطي يكون لطائفته وليس للوطن، وبالتالي يمكن أن يتحالف مع أية جهة تساعد الطائفة التي ينتمي إليها حتى لو كانت إسرائيل، ومن هنا فإن مطلب المسيحيين بتولي من يستحق منهم المناصب القيادية والوظائف الحساسة لا يمكن تحقيقه، نتيجة لهذا السبب!
وما حدث في مصر خلال الأيام الماضية، فضلا عما كشفته بعض الوثائق حول الدور الذي لعبه هذا الجهاز اللعين في تفجيرات الكنائس، وبث بذور الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، يؤكد كم الجرائم التي ارتكبها نظام مبارك لتفتيت وحدة المصريين.. استخدم النظام نفس ألاعيب الاحتلال الإنجليزي وسياسة laquo;فرق.. تسدraquo;، ليبقى هو مسيطرا على الجميع. عمل على إقناع المسيحيين بأنه حامي حماهم وأنهم سيرون أياما سوداء لو سقط النظام لأن بديله سيكون laquo;الإخوان المسلمونraquo;، وفي الوقت نفسه لعب طوال الوقت على إثارة المسلمين بأن الأقباط يحاولون تغيير هوية الدولة، وسرب أخبارا عن تكدس السلاح في الكنائس، وكان يصر على بناء مسجد أمام أي كنيسة، ليس لتحقيق الوحدة الوطنية كما زعم، ولكن ليبقى كل طرف متربصا بالآخر.
وبمجرد قيام عصام شرف رئيس الوزراء المصري الجديد، بمخاطبة الثوار في ميدان التحرير، وتأكيده على أنه يستمد شرعيته منهم، حتى أيقن السفاحون في جهاز أمن الدولة أن نهايتهم قد اقتربت، فبدؤوا ألعابهم القذرة بإحراق الملفات التي تدينهم، ثم الخطوة الأخطر بإحراق مصر بنار الفتنة، بمساعدة وتحالف من يطلق عليهم laquo;أرامل مباركraquo; وهم المستفيدون من نظام الرئيس المخلوع من بقايا حزبه، فضلا عن خليط من مسؤولي السلطة السابقين ورجال الأعمال.. أوعزوا إلى بعض الجهلاء المتعصبين بإحراق إحدى الكنائس لتندلع شرارة التعصب من جديد، وبالتالي إفشال حكومة شرف الذي حمله الثوار على الأعناق، والتأكيد على مقولة مبارك بأن البديل له هو laquo;الفوضىraquo;.
بعيدا عن هذه اللعبة المكشوفة، يبقى السؤال: هل ولاء الأقباط للوطن أم للطائفة؟
أعرض صفحات من دفتر أحوال الوطن عن أقباط تولوا مناصب عديدة رفيعة سياسية ودينية، وبلغوا من الشهرة والنفوذ قمة المجد، لنعرف من سيرتهم ولاءهم الحقيقي.
نبدأ من البابا بطرس الجاولي الذي رفض تدخل روسيا لحماية الأقليات عندما شعرت روسيا القيصرية بالخوف من محمد علي (مؤسس الدولة المصرية الحديثة الذي تولى الحكم عام 1805) وخشيت من أن نفوذه قد يمنع تغلغلها في الشرق، فحاولت الاستعانة بالأقليات في تنفيذ مخططها، فبعثت بأحد أمرائها ليفاوض بطريرك الأقباط البابا بطرس، لوضع الأقليات تحت حماية قيصر روسيا العظيم، فما كان من البابا إلا أن سأل الأمير سؤالاً أثار دهشته وغيظه في الوقت نفسه: هل قيصركم يحيا للأبد؟ فقال الأمير: laquo;لا يا سيدي البابا.. يموت كسائر البشرraquo;. فرد عليه البابا: laquo;إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، أما نحن الأقباط فنعيش تحت حماية ملك لا يموت للأبدraquo;، وهنا خجل الأمير وانصرف.
وعندما توجه هذا الأمير لمقابلة محمد علي باشا سأله: laquo;هل أعجبتكم مصر وآثارهاraquo;، أجاب الأمير: laquo;نعم ما أعظم أبا الهول وما أروع الأهراماتraquo;. واستطرد: laquo;لكن شيئاً آخر آثار إعجابي أكثر من هذا وذاك، وطنية بطريرك الأقباطraquo;، ثم قص عليه ما حدث مع البابا، فأعجب محمد علي باشا بهذا البطريرك، وتوجه بنفسه إلى الدار البطريركية ليقدم تقديره إلى البابا، فقال له البابا: laquo;لا شكر لمن قام بواجبه نحو بلادهraquo;، فرد عليه محمد علي والدموع تنهمر من عينيه: laquo;لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك، فليكن لك مقام محمد علي بمصر، ولتكن لك مركبة معدة كمركبتهraquo;.
ولن ينسى التاريخ أيضاً البابا كيرلس الرابع البطريرك الملقب بـ laquo;أبي الإصلاحraquo;، والذي اهتم بنشر الثقافة في مصر، وأسس العديد من المدارس، وكان يقبل فيها كل أبناء مصر دون تفرقة بين أقباط ومسلمين. وقد أرسله الخديو سعيد إلى إثيوبيا لتحسين العلاقات معها. وكان هذا البطريرك وطنياً غيوراً جداً، وتجلي ذلك عند إشاعة مغرضة هي طلبه من الخديو إعفاء الأقباط من الخدمة العسكرية، وقال وقتها بالنص: laquo;حاشا أن أكون جباناً بهذا القدر حتى لا أعرف الوطنية أو أفتري على أبنائي الأقباط بتجردهم من محبة وطنهم ورفض خدمته والدفاع عنه وحماية حدوده وأرضهraquo;. ومن نوادره أيضا يذكر أنه عندما كان قساً مر متعمداً في طريق على جانبه مسجد مهدم، فوجه اللوم للمسلمين على تركه بهذه الحالة، ووعد بمساعدتهم إذا هم شرعوا في بنائه.
أما البابا كيرلس الخامس فكانت فترة رئاسته للكنيسة القبطية مواكبة لفترة الاحتلال البريطاني، وأراد الإنجليز كعادتهم أن ينشروا بذور الفرقة والاختلاف بين عنصري الأمة، فأرسلوا ما كانوا يسمونه ndash;آنذاك- بالمندوب السامي، الذي جاء ليساوم البابا، على حماية التاج البريطاني للأقليات في مصر، فما كان من البابا العظيم إلا أن قال له: laquo;يا ولدي إن الأقباط والمسلمين يعيشون جنباً إلى جنب منذ أقدم العصور، ويتعايشون في البيت الواحد. وفي المصلحة يجلسون في مكاتب مشتركة، ويأكلون من أرض طيبة واحدة، يشربون من نيل واحد، ويتلاحمون في كل ظروف الحياة في السراء والضراء، ولا يستطيعون أن يستغنوا عن بعضهم بعضا، ولن نطلب حماية نحن الأقباط إلا من الله ومن عز مصرraquo;، فخجل الرجل وأبلغ حكومته بهذا الموقف الحكيم.
وخلال ثورة 1919، عندما تشكل الوفد المصري برئاسة سعد زغلول والذي سافر إلى لندن لمفاوضة الإنجليز بشأن الاستقلال، كان من بين أعضائه أربعة من وجهاء الأقباط هم سينوت حنا وجورج خياط وويصا واصف ومكرم عبيد. وتمتع عبيد بشعبية طاغية، فهو صاحب فكرة النقابات العمالية وتكوينها، ومن أهم مأثوراته laquo;اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمينraquo;.
هذه مجرد نماذج من تاريخ وطني طويل للأقباط.. وأكرر السؤال إلى ضمير كل مسلم حقيقي وكل من يحب الخير لهذا الوطن: هل ولاء الأقباط للطائفة أم للوطن؟!