خيرالله خيرالله

هل تكفي استعادة القوات الموالية للعقيد معمّر القذافي المبادرة على الأرض كي يستعيد الزعيم الليبي السلطة على كل ليبيا. كانت السيطرة على الزاوية نقطة تحوّل في المواجهة مع الثائرين على النظام القائم منذ اثنين وأربعين عاماً. تأكد أن القوات الموالية للقذّافي باتت تمتلك اليد الطولى في المواجهة العسكرية القائمة منذ نحو أربعة أسابيع بعد استعادة راس لانوف في المنطقة الشرقية، المنطقة المعروفة بمعاداتها للنظام تاريخياً.
ليس معروفاً هل سيحدث تدخل دولي يعيد التوازن على أرض المعركة. هذا التدخل سيحصل في مرحلة ما نظراً الى أن ليبيا دولة نفطية قبل أي شيء آخر. لكن الثابت أن الزعيم الليبي عرف، أقلّه الى الآن، كيف يناور وكيف يواجه المنقلبين على نظامه الذي لم يكن قابلاً للإصلاح نظراً الى أنه قام على فكرة واحدة وحيدة تتمثل في إفقار الليبين بهدف تدجينهم في حين أن كل الأموال، أموال النفط كانت تُستخدم في مغامرات لا تعود بأي فائدة على المواطن أو على البلد عموماً. كيف تستفيد ليبيا من مغامرة عسكرية مكلفة في تشاد؟ ماذا يفيد ليبيا من تقديم مئات ملايين الدولارات لمنظمة أو منظمات فلسطينية مارقة لا همّ لها سوى الإساءة الى القضية الفلسطينية وتوريط الفلسطينيين في حروب لا تعود سوى بالضرر على قضيتهم كما حصل على أرض لبنان مثلاً؟ كان همّ إحدى المنظمات التي موّلها النظام الليبي طويلاً تدمير فنادق بيروت بشكل مدروس. وهذا مثل بين مئات الأمثلة التي يمكن أن تُساق عن الجرائم التي ارتكبها بعض العرب في حق لبنان واللبنانيين.
يمكن إعطاء أمثلة كثيرة أخرى على تبديد الأموال الليبية، وهي حق من حقوق الشعب الليبي، على قضايا خاسرة سلفاً لا تعود سوى بالضرر على المواطن والبلد. من بين ما يمكن الإشارة اليه التورط الليبي في قضية لوكربي ودعم جماعة quot;أبو نضالquot; وجماعات إرهابية أخرى وصولاً الى الفيليبين. كذلك، كان هناك دعم ليبي في مرحلة معينة لجبهة quot;بوليساريوquot; التي تُستخدم منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي في شن حرب استنزاف على المغرب.
قد لا تكون ليبيا وحدها متورطة في قضية لوكربي، لكن تفجير طائرة أميركية في الجو أواخر العام 1988 وفَّر فرصة لواشنطن كي تفرض عقوبات على ما كان يسمى quot;الجماهيريةquot; شملت حظراً جوّياً عليها. ما الذي كان يجبر ليبيا على الإقدام على عمل من هذا النوع؟ ما الذي كان يجبرها على التعاون مع إيران وتزويدها بالصواريخ من أجل قصف بغداد في أثناء الحرب العراقية- الإيرانية بين العامين 1980 و1988؟
لكن ذلك كله لا يمنع من الاعتراف بأن البديل من نظام القذّافي يمكن أن يكون مخيفاً، لا لشيء سوى لأنّ الزعيم الليبي هيأ كل الظروف المناسبة لصعود التيارات الدينية المتطرفة. تكمن المفارقة في أن القذّافي محقّ في تحذيره من أن المواجهة القائمة حالياً هي بين نظامه من جهة وإسلاميين متطرفين من جهة أخرى. يذهب القذّافي حتى الى اختصار المشهد الليبي بأنه مواجهة بينه وبين quot;القاعدةquot; بزعامة اسامة بن لادن. لا شك أنه لا يجانب الحقيقة كثيراً. ولكن ما فات الزعيم أنه أعد التربة الليبية لـquot;القاعدةquot; وما شابهها. رفض أي إصلاح من أي نوع كان، بما في ذلك الإصلاحات التي طرحها نجله سيف الإسلام الذي احتكّ بالعالم وسعى الى نقل البلد الى مكان آخر اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وحتى إعلامياً. في النهاية، لم يجد سيف الإسلام سوى الخطاب المتشدد يلجأ اليه حتى لا يُقال إنه تمرّد على والده.
من حق القذّافي الأب الشكوى من quot;القاعدةquot; ومن المتطرفين. ولكن يُفترض به أن يسأل نفسه أوّلاً كيف يستطيع شخص مثله، كان يمتلك كل السلطة ويتحكّم بكل الثروة، حرمان الليبين من العلم ومن القدرة على الاحتكاك بكل ما هو حضاري في العالم؟
ما الذي يمكن توقعه من شعب دمّرت له quot;الجماهيريةquot; النظام التعليمي المتطور الذي كان معمولاً به في البلد أيام العهد الملكي؟ الى أين يذهب شعب حُرم من العلم ومن اللغات الأجنبية ومن القدرة على السفر والتعرف على العالم بحجة أن ذلك يصب في مصلحة الاستعمار؟
ربما، من حظ ليبيا أن الشعب فيها احتفظ ببعض القيم التي جعلته يتذكر أن عليه الايمان بالبلد أوّلاً بعيداً عن الشعارات الطنانة الفارغة. كان أوّ ما فعله الليبيون رفع العلم الملكي عالياً. جعلوا من العلم رمزاً لمقاومة quot;الجماهيريةquot;. ولكن يبقى الخوف كل الخوف من أن يكون ذلك مجرد غطاء لحركات متطرفة تستخدم الانتفاضة الشعبية للاستيلاء على السلطة. هل نجح القذّافي في ايجاد البعبع الذي يخيف به العالم من النتائج التي يمكن أن تترتب على إزاحته؟
في كل الأحوال، تبدو معركة ليبيا طويلة. قد يحسمها العقيد القذّافي عسكرياً في الداخل. ولكن سيظل السؤال ما الذي سيفعله بعد ذلك؟ من سيخرجه من عزلته الدولية؟ هل هناك من هو على استعداد لإعطائه فرصة أخرى؟ ولكن الأهم من ذلك كله من سيخرج الليبيين من حال البؤس؟ من سيعيد ليبيا الى الليبيين بدل أن يكون خيارهم بين العودة الى quot;الجماهيريةquot; ونظام ديني متسلط؟ هل من مأساة أكبر من هذه المأساة؟