زهير فهد الحارثي
ثمة معطيات جديدة تتشكل في عالمنا الآن، ولم تعد هناك قدرة بشرية بإمكانها محاربة أو منع هذه التحولات التي باتت مسلمات تفرض على الجميع أن يتعامل معها سواء بإرادتهم أو من دونها، وهو ما يحدث الآن في أغلب الظن، ما يتطلب تحركا وتفاعلا جديا حتى يمكننا أن نقول إنه بإمكاننا المنافسة أو قل تأكيد الحضور والتواجد في الساحة على أقل تقدير.
ولعل التساؤل هنا يدور حول العالم، فهل هو ُمقبل على تصادم أم تلاحم؟ الإجابة تعتمد على الزاوية التي تنطلق منها لتصل إلى الحقيقة؟ ومع ذلك فعندما تعتقد أنك توصلت إلى كشفها، عليك بالتسليم بعدم وجود حقيقة مطلقة، ولذا فهي حقيقة نسبية، الأمر الذي يؤدي إلى وجود قراءات متعددة، ليست بالضرورة أن تكون نتائجها صحيحة.
وفي ظل هذا الانفتاح الرهيب، تجددت المفاهيم، وتثاقفت العقول، وتلاشت الحواجز، وكأنها تجسد ثقافة كونية تشكلت وتكونت. ولعل من يُمعن في نسيجها، يوقن أن ديمومتها لن تنقطع، على أن المقام ليس لتحليل تلك الإفرازات وتداعياتها، بقدر ما هي ترتبط بشكل أو بآخر بموقعنا في العالم وعلاقتنا بالآخر، فضلا عن التعامل مع التغيير دون انسلاخ وتماهٍ، أو دون تقوقع وانعزال.
وعند الارتهان للمنطق، نقول إن الانعزال والتقوقع مثلهما مثل الاندماج والتماهي، فهما في نهاية الأمر ضعف وفقدان ثقة.وهنا يتبادر سؤال ملح: كيف لك أن تحافظ على الهوية وتتواصل مع الآخر في آن واحد؟!
الإجابة تكمن في التحديث أو قل التجديد إن شئت، وذلك بنقل التراث من شكل قديم إلى شكل جديد، أي انك تحافظ على مبدأ الأمانة للتراث وحمايته من التحريف، وفي ذات الوقت تكرس أهمية التحديث، وذلك بإخراج جوهر التراث الروحي وتركيب عناصره الجوهرية في ثوب جديد للثقافة، ما يحقق له هويته العربية وحداثته في آن.
ولذلك لا غرابة في الاعتقاد بأن الحضارات لا تتلاشى إذا ما تلاقحت وتناغمت مع بعضها البعض، بمعنى المواءمة، أي الاندماج الجزئي لكل الحضارات فيما بينها مع حفظ واحترام هوية كل حضارة. أما العد التنازلي لأي حضارة وتبخرها أو اندثارها فإنه يتحقق متى ما كان التقوقع إحدى صفاتها، ولعل في التاريخ الكثير من العبر والحقائق، فتوهج الحضارة الإسلامية لم يكن ليحدث لو لم تنهل من الحضارتين الفارسية والرومانية، ناهيك عن ترجمتها للمؤلفات الإغريقية، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى إثراء الحضارة الإسلامية الحضارة الغربية الراهنة بكثير من المساهمات العلمية والأدبية.
وعند المضي إلى مزيد من التحليل، نقول يقتضي الحال البحث عن عوامل تساعدنا على الإبداع والتفاعل في خضم مواجهتنا المستمرة لتحديات العصر ومتغيراته.
ومع ذلك، لا تزال في عالمنا العربي أصوات وعقليات تكرس هجومها للغرب، وحضارته ورفضها المعلن للتعامل مع تلك الشعوب، وتصل في غلوها إلى حد المطالبة بالقطيعة مع الغرب. هذا النموذج الذي يسلك فكرا أحاديا، كرسته جماعات متطرفة لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وبالمقابل سمعنا أيضا أصواتا شاذة في الغرب تطالب بالمثل.
على أي حال ، هذا التوجه يتناقض مع مفهوم الموضوعية، فهي تناقض نفسها حينما تطالب بالقطيعة مع الغرب وابتكاراته وإنتاجاته، في حين أن ما فوقها وحولها وتحتها هو من صناعة الغرب، فأي عاقل لا ينكر أن تكنولوجيا الحاضر وابتكارات القادم هما من إفرازات الحضارة الغربية. ولا يصل الأمر إلى هذا الحد، بل تجدهم يتصيدون أي إخفاق علمي يتم في الغرب، ليكيلوا له السب والشتم والتحقير، وكأنهم يتشفون بفشل العلم وتحجيم إنجازات العقل البشري.
نعم.. للأسف هذه عقليات تعج بها بعض مجتمعاتنا، وهي بلا شك تعاني من خلل كبير في الفهم والتحليل، وعادة ما يقعون في هذا اللبس، فالتقويم الموضوعي يجب أن يكون بعيدا عن العاطفة الأيديولوجية أو الموقف العقدي والسياسي، لا سيما في مجال البحث والتحليل العلمي، ولكن يبدو أن أولئك لا يمكنهم أن يتخلصوا من مواقفهم الدفينة التي تنكشف في ردود فعلهم بشكل لاشعوري.
لا ادري إن كانوا يعلمون أو لا يعلمون، أنهم بذلك يخلطون بين آرائهم وتحليلاتهم، لأنه بلا جدال أن هنالك فرقاً بين البحث العلمي الإنساني وبين الفكر الغربي (السياسي منه تحديدا) فالأول يصب في صالح البشرية ورفاهيتها، في حين أن السياسة وبرامجها تستند إلى مصالح ذلك الحزب أو تلك الحكومة، وليس بالضرورة أن تعبر عن رغبة هذا الشعب أو ذاك.
علينا أن نوقن أن الغرب الآن هو من يملك الأدوات والقدرات للسيطرة والسيادة، ومن يجحد ذلك فهو لا ينتمي إلى عالم الواقع، بل إلى عالم الأحلام والنوستالوجيا، وليس بالضرورة أن نرفض هذه الحضارة بالمطلق ولا أن نقبلها بالمطلق، بل علينا أن نستوعبها وان نتفاعل معها من دون أن ننسلخ عن قيمنا وثوابتنا وهويتنا، واضعين في الاعتبار أن المصالح هي لغة اليوم، فلا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، وأحسب أن العلاقات الدولية اليوم تستند إلى هذا المنطق.
ولذا علينا أن ننسلخ من مفاهيم المؤامرة وان الغرب يتربص بنا أو بالإسلام، فالغرب لا يعنيه شيء إلا مصالحه، وعلينا أن نعامله بالمثل، مرتهنين إلى العقل والانفتاح ونسبية الأشياء والواقعية وتسمية الأشياء بأسمائها، ونتخلص من عقلية الفوبيا والانغلاق والجمود وتعليق أخطائنا وهفواتنا وضعفنا وخلافاتنا وتخلفنا على شماعة الغرب!!
نعم.. فات على هؤلاء، أن أولئك (الغرب) رغم تحفظاتنا إزاء تعاملهم مع بعض القضايا، قدموا للبشرية خدمات جليلة، وما زالوا ينفقون الكثير لرفاهية الإنسان وإسعاده.
أما المعضلة فهي مع أولئك الذين ما فتئوا يقللون ويحقرون من قيمة تلك الانجازات مكرسين مفاهيم القطيعة والعداء والبغض، ساعين وراء أوهامهم وأزماتهم. ولعمري أنها أزمة الأزمات، فبالله عليك،كيف يمكنك أن تخلق وعيا في عقول كهذه، عقول لا تؤمن بالرأي المخالف، ولا حتى بوجود الآخر، في حين أن المفارقة تقول أن (الآخر) جسد قدراته ماديا من ابتكارات وغيرها، لم تستطع تلك الفئة الإتيان بمثلها أو حتى القدرة على التعامل معها. إن معالجة هذا الخلل يكمن أولا بالاعتراف به، ومن ثم إعمال العقل في النقد والبحث والتجربة، والإيمان بالعمل هدفا وقيمة، والنتيجة ستكون مشاركة وانجازا في حضارة عالمية لن يكون بوسع أحد أن يعيش خارج مدارها، وإلا كان خارج التاريخ.
التعليقات