الحسين الزاوي

إن مفهوم الثورة مملوء بالالتباسات والتناقضات في جوهره ومعانيه الأساسية التي وسمت بشكل عميق صيرورة الثقافات وممارساتها المتعددة . فالثورة تدل، في الأصل الاشتقاقي الأجنبي للكلمة الذي يميز أدبيات الفلسفة والعلوم السياسية المعاصرة، على نوع من العودة أو الانقلاب على الذات، وفق ما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي ldquo;فرانسوا شاتليهrdquo;، وكأن هذه الدلالة هي بمنزلة تأكيد ما كان، وتوقع في اللحظة نفسها لما سيكون، أو سيحدث لاحقاً . ويمكن أن يؤخذ هذا التشكيل الدلالي بمعنى إيجابي، من منطلق أن ما هو كائن، وحتى في ما يحمله من تجليات غير ملائمة، يمثل استعادة لماضٍ قديم سيكون له، هو الآخر مستقبله الخاص، وذلك ما يمثل ديدن الحياة الطبيعية في فصولها المناخية المتعاقبة . ومن هذا المنطلق أصبح بإمكاننا أن نتحدث عن ثورات مناخية وبيولوجية وعلمية، ومن ثمة فإن الثورة تشير إلى ذلك التطور الذي يعاود المجيء في كل مرة، إنها تعكس إلى حد ما صورة مثالية وكاملة لدورة حياتية إنسانية يمكن أن نرمز لها بالدائرة الهندسية .

أما من الناحية التاريخية، فيتم توظيف كلمة ثورة بوصفها تمثل قطيعة، وهذا المعنى الأخير هو الذي يميز استعمالاتها الدارجة . وانطلاقاً من هذه الدلالة يتم الحديث عن جملة من الثورات، الديمغرافية، والاقتصادية، والسياسية والاجتماعية والثقافية . وكأننا نريد بذلك الإشارة من خلال هذا التوصيف إلى أن هناك قطيعة حاسمة قد حدثت، وأن ما كان سائداً من قواعد وتنظيمات قد تم تجاوزه بعد حدث الثورة، ذلك أننا أمام حالات يدعي فيها كل تغيير أنه يمثل ثورة .وذلك ما يضاعف من غموض المفهوم ومن التباسه، ومع ذلك لا مندوحة أن نعترف بأن كل ثورة تطمح إلى قلب الأوضاع السائدة وتمارس الفصل والقطع، قبل أن تعاود الوصل وفق قواعد ترى أنها جديدة ومختلفة .

لكن هذه الثورة بكل معانيها المتناقضة إذا ما أردنا أن نقيس فعاليتها على مستوى المشهد العربي الراهن، علينا أن نتأمل بشكل واعٍ ونقدي واقع المجتمع المدني في الدول العربية التي شهدت في الفترة الأخيرة ثورات شعبية، أو تلك المرشحة لأن تعرف تغيرات مستقبلية حاسمة يمكن أن تصل إلى مستوى التحول الثوري الحاسم . خاصة أن مفهوم المجتمع المدني غير محدد من حيث عناصره وأهدافه وآليات اشتغاله على المستويين الاجتماعي والسياسي، من منطلق أن هذا المفهوم أضحى مفهوماً تفاضلياً يحمل دلالات معيارية، إضافة إلى معانيه الموضوعية، وفضلاً عن ذلك فهو مفهوم يتم توظيفه في سياق ثنائيات لفظية متعارضة لعل أشهرها ثنائية: دولة/مجتمع مدني، وهي التي تُبرز علاقة الدولة، وربما صراعها مع مختلف المنظمات والتنظيمات والجمعيات والهيئات والأعضاء الفاعلين داخل المجتمع، أي كل ما من شأنه أن يُترجم ويُجسد الوظيفة والطبيعة الاجتماعية والسياسية للإنسان العربي بوصفه مواطناً يتمتع بكامل حقوقه وملتزم تمام الالتزام بواجباته .

ومع ذلك علينا أن نشير وفق صيغة الفيلسوف الألماني ldquo;هيغلrdquo; إلى أن الدولة هي بمنزلة ldquo;شرط الإمكانية بالنسبة للمجتمع المدنيrdquo; بمعنى أن هذا المجتمع المدني لا يمكن أن يوجد من دون أن تكون مكونات هذا المجتمع المتصارعة متجاوزة من طرف مؤسسة الدولة، التي رأى ماركس ضرورة التخلص منها من أجل ضمان تقدم وتطور المجتمع المدني . من منطلق أن اختلال التوازن بين المجتمع المدني والدولة في الكثير من الأنظمة لمصلحة الدولة الشمولية أدى ويؤدي باستمرار إلى اختناق المجتمع المدني، وبالتالي فإن إقامة علاقة صحية متوازنة وتكاملية بين المجتمع المدني والدولة، من شأنه أن يضمن استقرار الكثير من المجتمعات العربية التي عرفت مؤخراً ثورات وتحولات عميقة . ذلك أن الوضوح في معاني الأبجديات النظرية المستعملة على مستوى التفكير السياسي ليس ترفاً دلالياً، وإنما يمثل ضرورة منهجية وموضوعية من أجل تحقيق مقاربة عقلانية ومستنيرة لأوضاعنا المتأزمة، خاصة أن المجتمع المدني الواعي والطامح لإقامة علاقة ندية وناضجة مع الدولة، يعد مفتاح حل كل الأزمات المزمنة والمستعصية . لأن علاقة الصراع الدائم بين الدولة والمجتمع المدني في الوطن العربي، من شأنه أن يُسهم في تدخل المنظمات الدولية غير الحكومية في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، بدعوى دعم مطالب المجتمع المدني ضد تسلط وهيمنة الدولة . الأمر الذي يمكنه أن يفضي إلى تفتيت الكيانات القطرية العربية لمصلحة هويات جزئية طائفية، تخدم مصالح من يدعمون ويقفون خلف هذه المؤسسات غير الحكومية .

وعليه فإن مستقبل الثورة التي يعرفها الوعي العربي المعاصر والتي تتجلى في سياق التحولات التي تعرفها بعض الأقطار، سيتبلور في الاتجاه الصحيح إذا ما استطعنا أن نؤسس مجتمعاً مدنياً منفتحاً يجمع ما بين مقومات الأصالة، وضرورات الانفتاح على التطورات الإيجابية التي تحدث في العالم . بحيث يكون بإمكان كل مكونات المجتمع أن تعبر عن تطلعاتها وتحقق طموحاتها المشروعة بكل حرية وسلاسة، وذلك في ظل دولة قوية بمؤسساتها المنتخبة، وليس بأجهزتها الدكتاتورية المتسلطة التي تعيق تطور المجتمع المدني وتحول دون تحوله إلى شريك حقيقي للدولة ولهياكلها المختلفة، لأن المجتمع المدني القوي بحيوية وديناميكية أبنائه المبدعين يُمثل أحسن ضمان لاستقرار الدولة العربية وازدهارها .