خالد الجابر


تحول معظم الدول العربية إلى عدة سجون صغيرة
تغيير الواقع العربي بعد الخروج من الاستعمار والدخول في عصر الاستبداد
الوحدة الوطنية مع نظام الديمقراطية والحريات وليس مع نظام الديكتاتورية والاستعباد


تمثلت البداية في المزايدة على الأحلام المشروعة في بناء وطن مستقل تحت راية المساواة والحرية، وإرساء العدالة الاجتماعية، ومحو الفروق الطبقية، وتحقيق الرفاهية وبناء مجتمع سليم خال من الفقر والتشوهات والأمراض، وتحولت مع مضى الزمان إلى كابوس فظيع استمر لأكثر من نصف قرن من ميلاد الدولة الحديثة في العالم العربي وكانت المحصلة أنظمة تولتارية استبدادية عسكرية بوليسية قمعية دموية صارت فيها الدولة قائمة على معسكرات اعتقال والوطن العربي الكبير إلى عدة سجون صغيرة والمواطن إلى عبد وخادم ذليل عبارة عن متراس في آلة، تم التلاعب بالدين وتدجين رجاله ليسبحوا بحمد القائد وانجازاته، وزور التاريخ وأدلجت اللحظة الزمنية لتخدم أفكار الحزب الواحد والرأي الواحد والرئيس الأوحد الفرد الصمد، وشوهت الجغرافيا وصدرت الأملاك العامة والخاصة وتراجعت كل الأمنيات وحل محلها البأس والظلم والقهر والعدوان. كان الوضع أشبه بالأحداث التي تناولها quot;دستويفسكيquot; وفي روايته الشهيرة quot;الممسوسونquot; عن أولئك الذين شاركوا الناس في تطلعاتهم في قيام مجتمع عادل خال من الطبقات فهم يقولون كلاما جميلا في الجلسات والصالونات غير أنهم لا يترددون في قتل احد رفاقهم بدم بارد وإلقاء جثته في مستنقع عندما يحاول الانفصال عنهم.
الثورات في مختلف أرجاء العالم العربي التي تقوم بها الشعوب العربية اليوم أثارت الزوبعة الكبرى في المحيط الخاثر ووصلت أمواجها إلى الخليج الخادر، ورغم كل المحاولات في حصارها والتضييق عليها وتشويهها، فهي لن تتوقف إلا بعد ان تقوم بعملها وتغير بشكل جذري كل معالم المنطقة وبنيتها التي حاولت أن تنئ بنفسها عن التغيير في تحد صارخ لقوانين الكون وسنن الحياة! الثورة بشعوبها تنهض لتغير واقعها بعد الخروج من مرحلة الاستعمار الغربية ودخولا إلى عصر الاستبداد والديكتاتورية العربية بامتياز، وها هو الإنسان العربي يصحو ويطالب ويضحي بحياته في سبيل الكرامة والعزة والحرية بعدما ظن السادة انه هزم وانكسر بعد العمر الطويل من التربية في مزارع الحيوانات وفي أقفاص الدواجن! القصة العربية التراجيدية تتماهى مع روايةٌ جورج أورويل quot;مزرعة الحيواناتquot; والتي نشرت في انجلترا يوم 17 أغسطس 1945، المزرعة كان يديرها السيد quot;جونزquot; quot;تمثل مرحلة الاستعمار للدول العربيةquot;. وكانت المخلوقات في هذه المزرعة تشعر بأنّ أسلوبه في التعامل معها فيه الكثير من الظلم والقسوة والاستغلال. ومع أول فرصة سانحة نحو الاستقلال والحرية تعلن الحيوانات في المزرعة الثورة على السيد جونز، وتتمكن من طرده، لتصبح المزرعة تحت سيطرتها، إلا أنه يخطف الثمار مجموعةٌ من الخنازير في مقدمتها القائد quot;سنوبولquot; والعقيد quot;نابليونquot; حيث يسيطرون على القرارات المصيرية وإدارة العمل في المزرعة، رافعين تلك الشعارات التي تدعو الى انه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة في الاستقلال ومحاربة الأعداء المتربصين بالثورة وانجازاتها في الداخل قبل الخارج، وضرورة الإخلاص في العمل والتفاني فيه لإقامة المجتمع الحيواني الجديد الذي تنتفي فيه كلّ أشكال الظلم والاستغلال، ويسوده الرخاء والعدل، وتربط بين أفراده أواصرُ المحبّة والإخاء، لكن باسم الحرية استُعبِدت هذه الحيوانات، وباسم المساواة استُلبت حقوقها، وباسم الرخاء جُوّعت، وباسم الحياة سُفِكت دماؤها، وباسم المستقبل كُمّمت أفواهها. ويتمكّن الخنزير (نابليون) من طرد رفيق دربه (سنوبول)، والاستئثار بالسلطة، مستعيناً بمجموعة من الكلاب التي درّبها منذ كانت جراءً صغيرةً لتكون جهاز أمنه الخاصّ، إضافةً إلى الخنزير (سكويلير) الذي أنيطت به مهامّ الإعلامي القادر على تبرير سياسات (نابليون)، وإقناع الحيوانات بحكمة ما يصدر عنه من قرارات أياً كانت طبيعةُ هذه القرارات، أو الدوافعُ وراءها، ومهما كان الثمنُ الذي ستدفعه الحيوانات جرّاء تنفيذها.
ربما كان الخطاب الذي نطق به أقدم الحيوانات عمرا في المزرعة خير معبر عن حالة البؤس في العالم العربي، فهو يشير إلى طبيعة الحياة التي تعيشها المخلوقات في المزرعة العربية. (لنواجه الحقيقة، بصراحة، ان حياتنا تعيسة نكد فيها ونكدح، وهي حياة قصيرة.. نأتي إلى الحياة ولا نحصل على طعام سوى ما يسد رمقنا لحفظ النفس في أبداننا ونقهر على العمل حتى آخر ذرة من قوتنا وحين تنتهي الحاجة إلينا نذبح فورا بقسوة بشعة، ولا يوجد من يعرف معنى السعادة أو الراحة بعد أن يجتاز السنة الأولى من عمره ولا يوجد من هو حر عندنا.. إن الحياة بائسة وهذه هي الحقيقة... لكن هل هذا ببساطة هو جزء من نظام الطبيعة؟ هل هذا لان أرضنا فقيرة؟ ولا تستطيع منح الحياة المقبولة للذين يسكنون عليها؟! كلا أيها الرفاق وألف كلا.. إن أرضنا خصبة ومناخها طيب وبمقدورها توفير الطعام الوفير لعدد اكبر بكثير من الذين يقطنونها حاليا، نستطيع إن تعيش جميعا حياة مريحة ومحترمة تفوق خيالنا. لماذا إذن نستمر في هذه الحالة المزرية؟ ببساطة لأن نتاج عملنا كله تقريبا يسرق منا من قبل quot;السيدquot;.. فهو لا يدر الحليب ولا يضع البيض ولضعفه لا يستطيع جر المحراث ولا يمكنه أن يركض بسرعة تمكنه من الامساك بالأرانب. ومع ذلك فهو السيد علينا جميعا. يجبرنا على العمل وفي المقابل يمنحنا الحد الأدنى لسد رمقنا حتى لا نموت جوعا ويحتفظ بالباقي لنفسهquot;.
لا مجال لتحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية والأمن والأمان الفعليين إلا بالتخلص من النظام الديكتاتوري الذي يقوم بتحويل الاختلافات بين أفراد الشعب وفئاته إلى خلافات وانقسامات تكون أشبه بقنابل موقوتة يهدد النظام بتفجرها، حين يتم طرح فكرة استبداله أو حتى إصلاحه أو قيام أي معارضة له أو ضده كما يشير الكاتب حسام الدين درويش. ويضيف درويش انه لا معنى حقيقيا لربط فكرتي الوحدة الوطنية والأمان ببقاء نظام اتُفق على ديكتاتوريته، ولا يمكن منطقياً وواقعياً اللجوء إلى منطق الثالث المرفوع في الحديث عن العلاقة بين الوحدة الوطنية والأمان من جهة، والحرية والديمقراطية، من جهة أخرى. فوفقاً لهذا المنطق، إما أن نقبل بالنظام الديكتاتوري، إذا أردنا الوحدة الوطنية والأمان، وإما أن نضحي بهما، في سعينا للحرية والديمقراطية. وعلى الرغم من كل الدعايات الوطنية الايديولوجية التي يسوّقها النظام من خلال إعلامه ومؤسساته المختلفة، فان هذه الوطنيات هي غالباً زائفة لأنه يتم اختزال الوطن بشخص أو نظام يتم التأكيد على ضرورة وجوده واستمراره حماية وخدمة للوطن والشعب ووحدته المزعومة. يجب التأكيد على التلازم والترابط المنطقي والواقعي بين الأمان والوحدة الوطنية، من جهة مع نظام الديمقراطية والحريات، وليس مع نظام الديكتاتورية والاستبداد.
آخر كلمة:
''سألوا القذافي عن الثـورة، فرجع برأسه إلى الوراء مفكرا بعمق، ثـم قال ببطء: الثـورة هي.. أنثـى الثـور''.