شفيق ناظم الغبرا
التغيير في سورية واقع لا محالة، فمقتل ثمانين شاباً سورياً في يوم واحد الاسبوعَ الماضي، واقتحام درعا ومناطق اخرى بواسطة الدبابات هذا الأسبوع، مع استمرار سيل القتلى، يؤكد أن النظام السوري يواجه مستقبلاً صعباً. الأخطر أن الحكم زجَّ الجيش السوري (جيش حرب تشرين) في معركة ليست معركته. إن دخول الجيش بهذه الطريقة سيستنزفه، ويمكن أن يهدد بانقسامه، خاصة عندما تتحرك بقية المدن ولا يعود الجيش قادراً على تغطية المساحات الكبيرة لملايين السوريين. هذه مواجهة مع الشعب وليست مع جماعة. إن انتشار حالة الموت في سورية حوَّل الاحتجاج على تعذيب أطفال قاصرين في درعا كتبوا شعارات ضد النظام، الى ثورة هدفها الديموقراطية والحرية وإسقاط النظام. الواضح الآن هو سوء تعامل النظام السوري مع الأزمة.
إن استمرار حكم الطوارئ في سورية على مدى ثمانية وأربعين عاماً، رغم الإلغاء الاسمي مؤخراً، دليل واضح على فشل الإصلاحات التي وعد بها الرئيس بشار الاسد الشعبَ السوري عندما استلم الحكم من الرئيس حافظ الاسد عام ٢٠٠٠. وأمام هذا الفشل، اتجه النظام بعد التوريث الأول والأخير في الجمهوريات العربية نحو القمع والحلول الأمنية. وكلما اعتمدت الدولة على الحلول الامنية، اقترن ذلك بتراجع شرعيتها وفشل اجهزتها المدنية في تحقيق طموحات المجتمع. ولو قارنّا بين سورية ومصر قبل الثورة، فمن الواضح ان مصر سمحت بحرية تعبير هدفها الامتصاص في ظل حكم الطوارئ، اما في سورية، فالتعبير ممنوع الا اذا كان دعماً للنظام. الواضح ان حالة العداء بين الشعب ونظام الحكم أكثر عمقاً في سورية مما كانت في مصر، فالنظام يشك في الشعب ويشعر بالعداء والتناقض تجاهه، وهذا واضح من خلال التعامل مع أحداث درعا والحدث السوري الأوسع.
وفي سورية، نجد ان السلطة تركزت منذ مجيء الرئيس السابق حافظ الاسد عام ١٩٧٠، بيد فئة صغيرة تفرض نفسها بمركزية شديدة على الحياة السياسية وعلى المجتمع. ويمكن القول إن المجتمع السوري قَبِلَ وضْعَ الامن والاستقرار اولاً، وذلك بعد فترات من غياب الامن وكثرة الانقلابات في سورية، كما نجح النظام في خلق حالة خوف في صفوف الناس من إظهار أي معارضة بعد مجرزة حماه الشهيرة عام ١٩٨٢، والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى.
إن الحزب الذي قفز الى السلطة في سورية عام ١٩٦٣، والذي بدأت معه إعلانات الطوارئ، لم يُجرِ أيَّ مراجعة جادة على مدى العقود، ولم يفكر حزب البعث جدياً بما وقع لأحزاب شبيهة بحزبه في اوروبا الشرقية، كما أنه لم يتعظ بما حصل للرئيس العراقي السابق صدام حسين عام ٢٠٠٣. وهكذا، تحول حزب البعث الى حزب مفرغ من مضمونه التاريخي، بينما سيطرت اجهزة الامن على البلاد.
لكن الإستراتيجية السورية امتلكت عناصر ذكية، إذ ركزت على الخارج، فسورية تؤثر في كل من لبنان والعراق وإيران والفلسطينيين، وتتحكم بالكثير من الموازين العربية. وبينما شكل هذا التأثير نسبةً من الحماية للنظام، إلا ان هذه الحماية لا قيمة لها في هذه المرحلة، إذ إن الأساس الآن ليس للتوازن الإقليمي، بل للعلاقة بين الشعب والنظام.
والمجتمعات لا تتقبل الإجراءات الاستثنائية والطوارئ وحالة الرعب عقداً وراء عقد، وخصوصاً أنها تتحول الى غطاء للفساد واحتقار المواطن وتدمير حياته. وفي سورية، أُقصيت السلطة القضائية عن مهامها، وحتى السلطة التشريعية ذات الطابع الشكلي تم التلاعب بها وتعيين أعضائها، وهذا يفسر كيف تحولت السلطة التشريعية في سورية الى التبعية الشاملة لمركز السلطة.
وقد اكتشف الرئيس بشار مبكراً، ان الإصلاح سوف يعني انهيار النظام الذي ورثه، كما اكتشف ان الحاكم الحقيقي هو الاجهزة الامنية، وهكذا وجد نفسه مضطراً للدخول في اللعبة السياسية كما وجدها، لا كما أرادها. النظام السوري، كما تبين للرئيس بشار وكما هو واضح لمن يراقب الوضع من خارج النظام، هو أحد أقل الأنظمة العربية قابلية للإصلاح.
إن عدم قدرة النظام في سورية على الإصلاح بينما تقع تغيرات في المجتمع السوري الشاب في مجال التكنولوجيا والمعرفة والتواصل وطرق التفكير والطموحات والآمال والوعي السياسي والاجتماعي، في ظل الفقر والتهميش وفقدان الحقوق، هو الذي فجَّرَ التناقض في سورية بين القديم والجديد، وعندما ينفجر التناقض الكبير بين النظام السياسي وأسلوب عمله واحتكاره للاقتصاد وفساده من جهة، وبين الأغلبية الشعبية من جهة اخرى، فإنه يصعب أن لا يتعرض النظام للاهتزاز.
الشعب في سورية يريد تغييراً جوهرياً في ميزان القوى بينه وبين النظام، بحيث يفقد حزب البعث تحكّمه بالبلاد، وبحيث تصبح الحياة السياسية متعددة وحرة. وهذا يعني بالممارسة تفكيك الأجهزة الأمنية التي تلاحق المواطن، ومحاكمة كل من أطلق النار على المتظاهرين، وتحويل المرجعية السياسية في سورية إلى الشعب وليس إلى النظام أو الرئيس أو الحزب. وبما ان النظام اختار المواجهة الشاملة، كما بيّنت تطورات الايام الاخيرة، فمن الواضح ان اسقاط النظام اصبح مطلبَ المتظاهرين في الأسابيع والشهور القليلة القادمة.
وبإمكان الرئيس بشار الاسد، بما تبقّى له من تأثير في نظام يتداعى، أن يدخل في حوار جادٍّ مع مجتمعه حول المرحلة القادمة. هذه فرصة اخيرة، وهي لا تزال سانحة، وقد حصل هذا سابقاً في أميركا اللاتينية في الثمانينات، ووقعت حالاتُ تغيُّر شامل بلا انتقام وبلا محاكمات، وفي ظل اتفاقات حضارية بين المعارضة والحكم، بل إن جنوب افريقيا مثَّلت نموذجاً متقدماً لانتقال السلطة بلا انتقام بين الأغلبية السوداء والأقلية البيضاء الحاكمة. هذا التحول يصلح لسورية الآن، بين الأقلية المتمترسة والأغلبية الثائرة. لا بد من اكتشاف طريق مختلف للتعامل مع مطالب الشعب، غير إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين. إن رؤية شبان سورية يُقتلون لمجرد سعيهم لنيل حقوقٍ تمثِّل الحدَّ الادنى للشباب وللمجتمعات في بلاد العالم كلها، لَيثير الاشمئزاز حقّاً، ويطرح التساؤل عن هؤلاء الذين يأمرون بقتل أبناء شعبهم.
من الواضح من المقدمات، أن الثمن الذي سيدفعه الشعب السوري قبل تحقيق الحرية سيكون كبيراً، لكن القوة التي يستخدمها النظام لن تعيد التاريخ الى الوراء، بل ستجعل الثمن أكبر لكل الفرقاء، بما فيهم فرقاء النظام ومَن يؤيِّدهم من الاجهزة، فقد تجاوزت الشعوب العربية، كما الشعب السوري، حاجزَ الخوف. إن مزيداً من القتل لا معنى له، فالصندوق الذي حبست الانظمةُ فيه الشعوبَ لم يعد يتسع لها. ليت النظام السوري يغيِّر سلوكه تجاه المتظاهرين وتجاه التغيير السلمي وتجاه استخدام القوة، ويسعى بالتالي نحو حل سياسي يسمح بحل مشرِّف يحاكي سلمية الشعب السوري وسلمية تحركه المستحَق نحو الكرامة الإنسانية والحرية.
التعليقات