رضوان السيد

كان الإعلان عن الاتفاق بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، ومن القاهرة بالذات، مفاجأةً سارّةً للفلسطينيين والعرب، ومفاجأةً مُزعجةً للإسرائيليين والأميركيين. وقد أرادت الأطراف المختلفة فهم دوافعه وخلفياته على ثلاثة مستوياتٍ متباعدة أو متناقضة:

- المستوى الأول، وهو المستوى الفلسطيني والعربي العامّ. وفي هذا المستوى يفهم الجمهور العربي أنّ الثورات العربية حرّكت أيضاً ملفَّ الانقسام الفلسطيني، ودفعت للضغط على الفصيلين من أجل إنهاء الانقسام. وقد سارع أبو مازن لطرح مبادرة على quot;حماسquot; يجيءُ بمقتضاها إلى غزة لإنهاء الانقسام والمصالحة، ومضى قُدُماً فاجتمع برئيس فريق quot;حماسquot; في البرلمان الفلسطيني، وبحث في الأمر نفسِه. وقد أجابت quot;حماسquot; بتردُّدٍ ومُفاصلةٍ في العَلَن؛ من مثل القول: أهلاً بأبي مازن، لكننا نحتاج إلى مزيد من التفاوُض، أو لا داعي لهذه المظاهر العاطفية وعلينا الانصراف إلى القضايا الحقيقية! إنما الذي يبدو أنّ اتصالاتٍ سرية بدأت بعد زيارة أبو مازن لمصر في عهدها الجديد. فقال المفاوِضان عن الفريقين، إنّ اجتماعاتٍ تمت بدمشق، وأُخرى ببيروت، وانتهت باجتماعٍ بالقاهرة برئاسة مدير المخابرات المصرية الجديد، أوصلت إلى إعلان الاتفاق على إقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية، تعمد إلى حلّ كلّ المشكلات الأمنية والإدارية والسياسية، وتجري انتخابات بعد عام للبرلمان وللرئاسة، ويتعدلُ خلال العام هيكل منظمة التحرير بحيث تدخلها quot;حماسquot; والتنظيمات الأُخرى. وبحسب هذا التصوُّر فإنّ الجوَّ الثوريَّ العربيَّ الضاغط، والخوف على ضياع القضية الفلسطينية، والتحسُّب لمجريات الذهاب إلى الأُمم المتحدة في سبتمبر القادم لإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، حصل هذا الاتفاقُ أخيراً بعد انقسامٍ صرَّح عن نفسه عام 2006، وأدّى من جهة إلى إسقاط حكومة quot;حماسquot; المنتخبة بخروج الفتحاويين منها، وصيرورة quot;حماسquot; للاستيلاء عسكرياً على غزّة وفصلها عن الضفة عام 2007. ومنذ ذلك الحين جرت عدةُ دوراتٍ من المفاوضات، وإعلانات الاتفاق، بين القاهرة ومكة المكرمة ودمشق، دون أن يتحسّن الموقف، إلى أن قالت مصر قبل ثلاث سنواتٍ إنها أعدت نصاً لابد أن يوافق عليه الطرفان دونما تعديلٍ أو تبديل. وقد وقّعت السلطة، إنما لم توقّع quot;حماسquot;، ولم تُدع للقاهرة بعد ذلك. والمفهوم الآن، أنّ quot;حماسquot; وقّعت على الاتفاق بعد تعديلاتٍ غير كبيرة تتعلق بالمسائل الأمنية (أي مصير أجهزتها الأمنية)، والسياسية (العلاقة بمنظمة التحرير، وآليات اتخاذ القرار بداخلها). وبحسب وجهة النظر هذه؛ فإنّ المصلحة الفلسطينية، والظروف الثورية العربية، وشراسة الاستيطان الإسرائيلي؛ كُلُّ ذلك أدّى إلى الاتفاق على إنهاء الانقسام، للتعاون على إنهاء الاحتلال، كما قال عزّام الأحمد.





- أما المستوى الثاني من الفهم لما جرى، فيعتبر أنّ الثورات العربية أَفقدت quot;فتحquot; والسلطة الفلسطينية حليفها الرئيسي المتمثّل بنظام مبارك. ويرى أصحاب هذا التصوُّر أنّ النظام المصري السابق كان يرهن الاتفاق الفلسطيني بموافقة واشنطن والرباعية الدولية، بل بالموافقة الإسرائيلية أيضاً! ولذا فقد كان المُراد إخضاع quot;حماسquot; وإذلالها لكي تتخلَّى عن برنامجها quot;التحريريquot;، وليس التوافُق معها. لكن عقب الثورة، غيرت مصر رؤيتها لـquot;حماسquot;، وفتحت معبر رفح؛ وحسّنت علاقاتها مع أطراف إقليمية... فقوي جانب quot;حماسquot; واضطرت quot;فتحquot; لمراعاة الواقع الجديد، واعتبار الدعم الشعبي الذي تحظى به quot;حماسquot; من جانب الشعب المصري والسلطات الجديدة، لاسيما أنّ الأُفُقَ انسدَّ عليها لجهة مفاوضات السلام بسبب التعنُّت الإسرائيلي، والتخاذل الأميركي.

بيد أنّ هناك من يُقول إنّ المفاوضات السرية بين الطرفين ما دخلت مرحلتها الجدية إلاّ بعد بدء الاضطراب بسوريا. فقد تمت المرحلةُ الأولى بدمشق قبل الاضطراب، وكانت quot;حماسquot; مترددة بين الإقدام والإحجام. وكان واضحاً أنّ الإيرانيين والسوريين ما حسموا أمرهم بعد لجهة السماح بالتواصُل مع السلطة بدلاً من الضغط لإسقاطها، ولجهة اختبار مسار الثورة المصرية الجديدة. وبذلك؛ فإذا كان أبو مازن قد تلقّى ضربةً بانهيار نظام مبارك؛ فإنّ تطورات الوضع بسوريا قد تحرم quot;حماسquot; من مقرها بدمشق. ثم إنّ تصاعُد التوتُّر يمكن أن يجلب حرباً إسرائيليةً على لبنان، والمواقع الفلسطينية بسوريا، وعلى الحدود مع لبنان، ولن تجد quot;حماسquot; مَنْ يُنجدُها بعد الاضطراب في سوريا وليبيا. ويُضافُ لذلك أنّ هناك مساراً واعداً صارت السلطة تنتهجه منذ عام وهو قَطْع التفاوُض مع إسرائيل، والانصراف إلى استجلاب الدعم الدولي. وقد يحصل الاستقلال الفلسطيني هذا العام باعتراف الجميع، وتبقى quot;حماسquot; خارجه بحجة أنها تريد التحرير بالقوة! وهكذا فإذا كانت العوامل الثورية العربية قد أثّرت في فرض التقارُب الفلسطيني، فإنّ تأثيرها كان على الطرفين، لأنّهما ضعُفا: ضعُفت quot;فتحquot; لذهاب نظام مبارك، ولرهانها على التفاوُض مع إسرائيل، وضعُفت quot;حماسquot; للتحديات التي يُواجهُها حلفاؤها، ولفشلها في فكّ الحصار عن غزة، وعدم قدرتها على مُتابعة المقاومة.

- ويأتي المستوى الثالث ليُركِّز على الضعف الذي نزل ببرنامج السلطة الفلسطينية، ليس بسبب سقوط النظام المصري، بل بسبب تعنُّت حكومة نتنياهو، وتخاذُل أوباما، وتخلّيه عن quot;الصمود في وجه إسرائيلquot; كما نصح بذلك ميتشل مبعوثه للتوسط في النزاع خلال العامين ونصف العام. فقد انجرّ أبو مازن خلال الثمانية والعشرين شهراً الماضية إلى مفاوضات علنية وسرية، مباشرة وغير مباشرة، وما حصل على شيء باستثناء الوقف الجزئي والمؤقت للاستيطان! وعندما ذهب العرب إلى مجلس الأمن، فعلت واشنطن كلَّ ما بوسعها لمنْعهم من ذلك حتى لا يُحرجوا أنفُسَهُم ولا يُحرجوا إسرائيل. وهدَّد أوباما أبو مازن حتّى بقطْع المساعدات عن السلطة. لكنّ الفلسطينيين والعرب ذهبوا إلى مجلس الأمن سعياً لقرارٍ بوقف الاستيطان، فصوّت 14 من أعضاء مجلس الأمن لصالح الفلسطينيين، واستعمل العضو الخامس عشر، وهو الولايات المتحدة، حقَّ الفيتو لمنع صدور القرار! وتُروِّجُ الصحف الأميركيةُ الآن لأخبارٍ تقول إنّ ميتشل ينصح أوباما بالخروج إلى العلن بمبادرةٍ جريئةٍ تُمكِّنُ من العودة إلى عملية السلام، في حين يُصرُّ مستشاره دنيس روس، على أنه لا ينبغي إزعاج نتنياهو ومفاجأته؛ بل لابد من الانتظار لسماع رأيه وعندها يُقرِّرُ الرئيس هل يبادر أم لا؟! لذا يعتبر الأوروبيون أنّ أبو مازن أمام هذا الموقف المسدود، ومتغيرات الشرق الأوسط ومن ضمنها اتجاه غالبية الشعب الفلسطيني للمطالبة بالوحدة، ولكي يضغط على الولايات المتحدة، ذهب للتوافق مع quot;حماسquot; تحت مظلة الجامعة العربية.

المفهوم إذن أنّ أبو مازن بهذه العودة إنما يريد إنشاء إدارة واحدة وبالطريق الديمقراطي، للدولة الفلسطينية المستقلّة. والمفهوم أيضاً أنّ quot;حماسquot; وquot;الجهادquot; لا تعترضان على ذلك، لكنهما لا تريدان التفاوُض، وتقبلان من جهةٍ أُخرى بالاستقلال والاستمرار في المطالبة ببقية الأرض. وبذلك؛ فالشيطان سيبقى قائماً في التفاصيل. إنما المأمول أن تستطيع الأطراف الفلسطينية البقاء موحَّدةً في الشهور الممهِّدة لإعلان الاستقلال المنفرد أو المتفاوَض عليه. وإلى أن يحدث ذلك، سوف تشهد الساحة العربية المزيد من المتغيرات التي يرجَّح أن تكون لصالح دعم نضالات الشعب الفلسطيني من أجل الوطن والدولة.