علي الرشيد

بات في حكم المؤكد أن وجهة نظر أصحاب المعالجات الأمنية في النظام السوري هي التي انتصرت، لمواجهة الاحتجاجات السلمية للجماهير المطالبة بالحرية والكرامة والإصلاح على حساب أصحاب المعالجات السياسية، اتضح ذلك بجلاء خصوصا في الأسابيع الثلاثة الماضية، مع كل ما يترتب على ذلك من إدخال البلاد في نفق مظلم والإضرار حتى بمصالح السلطة الحاكمة.
دائما كان الأمني في سوريا منذ نحو أربعة أو خمسة عقود مقدما على السياسي، ودائما كانت السطوة الأكبر والصوت الأعلى للأجهزة الأمنية على حساب المؤسسات السياسية والمدنية، فالمواطن لا يستطيع اقتناء فاكس، أو فتح صالون حلاقة، أو الحصول على وظيفة له في الدولة، أو السفر، إلا بموافقة أمنية، والإعلام الرسمي لا يتنفس إلا برئة الأجهزة الأمنية، ولا يسمح له إلا بالتعبير عن وجهة نظرها، وتبرير أفعالها حتى لو كانت بمنتهى القسوة والعنف، كما حدث في مواجهة التظاهرات الأخيرة وحصار واقتحام المحافظات والبلدات والقرى، وأي خروج له عن سياق النص الأمني ولو بجملة أو كلمة واحدة يكون له القرار لها بعزل المخالفين عقابا لهم، وتأديبا لغيرهم (أقيلت رئيسة تحرير صحيفة تشرين الرسمية من منصبها باتصال من مسوؤل أمني بسبب انتقاداتها لأداء الأجهزة الأمنية في مواجهة المتظاهرين بدرعا).
عندما وصل الرئيس بشار الأسد إلى سدّة الحكم وإن كان من بوابة التوريث الجمهوري استبشر الناس خيرا بعهد جديد ـ غير ما كان سائدا في عهد أبيه ـ تنجز فيه إصلاحات سياسية مهمة، وتغلق فيه ملفات أمنية سابقة، لكن أيا من ذلك لم يحدث رغم مرور أحد عشر عاما على حكمه، وبدا واضحا أن فترته لم تكن سوى امتداد لفترة سابقة، تم فيها وأد ربيع دمشق (معارضة الداخل) وحكم على قيادتهم بالسجن لمدد طويلة، وظلت الكلمة للحزب الواحد، وغاب أي إعلام غير الإعلام الحكومي، وبقي عشرات الآلاف من المنفيين القسريين خارج بلادهم، وتعاظم الفساد المالي والإداري. واعترف الرئيس بعظمة لسانه بتأخر هذه الإصلاحات التي طرح شيء منها للنقاش في مؤتمر حزب البعث عام 2005.
وعندما هبت رياح ثورات التغيير العربي ووصلت إلى دمشق، تفاءل الناس خيرا في تعامل مختلف هذه المرة من قبل النظام السوري، رجاء استفادته مما وقع في تونس ومصر، واستيعابا منه للروح الجديدة التي تسري في المنطقة والمتغيرات العالمية المرتبطة بوسائل الاتصال المباشر والإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، لكن تطور الأحداث كشف عن انتصار التيار الأمني مخيبا أي أمل بالتغيير، تمثل ذلك في غياب أصوات شخصيات تحدثت عن حلول سياسية وبشرت بها في الأيام الأولى للتظاهرات، مثل مستشارة الرئيس السوري ونائبه، واقتصار الحديث عن الإصلاحات على الوعود فقط، وازدياد الممارسات العنفية المفرطة للأجهزة الأمنية، بعد الحديث عن إلغاء حالة الطوارئ، وحصار الحواضر والقرى واقتحامها والعقاب الجماعي لأهلها، وارتفاع عدد الشهداء إلى أكثر من 800، والمعتقلين والمفقودين جراء الاحتجاجات إلى ما يزيد عن 8000 شخص، بينهم عدد من الناشطين السياسيين والحزبيين والحقوقيين والصحفيين والكتاب والمثقفين، وغياب شبه تام للحكومة، واستمرار الإعلام الرسمي في فبركاته.
الحل الأمني أضر ـ وما يزال ـ بأرباب السلطة ونظامها أكثر مما أضر بغيرها، ومن أهم ذلك:
ـ انكسار حاجز الخوف لدى الجماهير وتواصل المظاهرات والاحتجاجات رغم قوة القمع والحصار والرصاص الحي، وهو أمر لم يكن معهودا من قبل.
ـ ازدياد السخط الشعبي الداخلي مع اتساع رقعة إراقة الدماء وأعداد المعتقلين ومسلسل الإهانات.
ـ تغير الصورة الذهنية لدى الشارع العربي ولدى كثير من النخب عن النظام السوري عن ذي قبل، كنظام ممانعة ومواجهة ومساند للمقاومة، وعن رئيسه الشاب الطبيب المثقف المنفتح والمتحدث اللبق الذي يفيض حيوية.
ـ انكشاف مظاهر العنف ضد المدنيين لشاشات وسائل الإعلام العربية المعتبرة والعالمية المرقومة، وتوثيق كثير من الجرائم ضدهم بالصوت والصورة، رغم منع النظام لهذه الأجهزة من تغطية الأحداث الجارية.
ـ التذكير بمجازر سابقة ارتكبتها الأجهزة الأمنية ضد المدنيين في الثمانينات كمجزرة حماة وتدمر وجسر الشغور وحلب.
ـ إدانات دولية وأممية لممارسة النظام العنف المفرط ضد المدنيين، وإيقاع عقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي على بعض مسؤوليه، وتشكيل مجلس حقوق الإنسان الدولي للجنة تقصي حقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان.
ـ بدء تغير مواقف حلفاء النظام منه بسبب الأحداث وتطوراتها، وصولا إلى توجيه تحذيرات له، وأبرز هذه المواقف موقف تركيا الأخير وتحذيرها من تكرار ارتكاب مجزرة أخرى كحماة وإلا سيكون للإنسانية ولتركيا موقف مختلف.
ترى هل من أصوات عاقلة داخل النظام في سوريا تنقذه من سوء مخاطر الحلول الأمنية وعواقبها على الوطن؟