تزحف الجماهير الثائرة نحو التماثيل والجداريات والرموز التي تمجد الزعيم لتسحقها تحت أقدامها، معلنة بداية عصر الجماهير، ففي تونس أمعن الشباب الثائر في صور بن علي تمزيقًا كرمز لبدء التغيير، وفي سوريا أيضًا فإن أول ما فعله أبناء درعا هو إسقاط صورة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وفي مصر أيضًا مهد الشعب لثورته بتمزيق جداريات وصور مبارك في المدن، وحتى في العراق فإن أول ما لجأ إليه الناقمون على صدام بعد دخول القوات الأميركية هو اسقط تمثال صدام في ساحة الفردوس.

عدنان أبو زيد: تشترك الشعوب الثائرة والجموع الغاضبة وهي تعبر عن رغبتها في التغيير، في الخطوة الأولى نحو تحقيق الهدف، وهو الزحف نحو التماثيل و الجداريات والرموز التي تمجد الزعيم لتسحقها تحت أقدامها، ففي تونس أمعن الشباب الثائر في صور بن علي تمزيقا كرمز لبدء التغيير، وفي سوريا أيضًا فإن أول ما فعله أبناء درعا هو إسقاط صورة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وفي مصر أيضًا مهد الشعب لثورته بتمزيق جداريات وصور مبارك في المدن، وحتى في العراق فان أول ما لجأ إليه الناقمون على صدام بعد دخول القوات الأميركية هو اسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس الذي كان ثابتًا حتى استعان هؤلاء بعجلة أميركية لإسقاطه، وليس ذلك بالأمر الاستثنائي إذا ما عرفنا ان طبيعة الأنظمة الدكتاتورية تبالغ في نشر وإشهار صور زعاماتها مثيرة الجدل حول الديمقراطية التي تفرخ زعامات مقدسة، فتقام الجداريات لرؤساء الأحزاب، وترسم اللوحات الكبيرة، ويدس الأعوان في المناسبات لرفع صور هذا الزعيم او ذاك، وليس هذا إلا مظهرًا من مظاهر حرب التضليل وتأكيد رموز التسلط.

أحمد عبدالملك: صور الرمز ونياشينه
يرى الأكاديمي والكاتب القطري أحمد عبدالملك في حوار مع quot; إيلاف quot; عن الظاهرة أن كل المظاهر الغاضبة التي نشاهدها في العواصم والمدن العربية من حيث تمزيق صور الرموز وتماثيلهم ينم عن غضب وعدم رضا الشعوب عما اقترفته يد هؤلاء الزعماء بحقهم. يضيف عبد الملك : وهذا يتقارب مع الصراخ و( الردح) في البرلمانات العربية، وهو أمر لا نجد له نظيراً في البرلمانات المتطورة التي تناقش هموم الشعوب.
وبحسب عبد الملك فإن رمز الطاغية -في اي مكان - يمثل حالة من حالات العسف ولكأن الطاغية ماثلاً أمام الناس يشاهدهم ويراقبهم. لذلك فإن صور الرمز ورموزه ونياشينه أول ما يقع في يد الشعوب الثائرة ؛ لذا فهي تنتقم من الطاغية في صورة رمزه وتمثاله. والأجدى بأي زعيم طاغية، تمرغت صوره تحت أقدام شعبه، أن يترك الكرسي ويرحل قبل أن تودعه الصحائف في الأركان المظلمة من التاريخ.
عصر صدام الذهبي
وحين زار مراسل فرنسي العراق أبان العصر الذهبي لصدام حسين فوجيء بكم الجداريات والتماثيل التي تمجد الزعيم الرمز والقائد الضرورة بحسب قاموس حزب البعث الحاكم في العراق وقتها، لكن المراسل ذاتهزار العراق العام 2006 ليندهش من جداريات ضخمة لزعماء محليين تحت قواعدها متسولون ونعاج ضعيفة وجائعة.
عبد الوهاب بدرخان : الأنظمة الإستبدادية وهوس التألّه
يرى الكاتب عبد الوهاب بدرخان في حوار مع quot;إيلاف quot; أن كل الأنظمة الإستبدادية تبدأ بالغة الذكاء وتنتهي بالغة الغباء. ولا أي دكتاتور تعلم الدرس من تحطيم تماثيل من سبقوه, حتى الذين يتهاوون الآن أمام أبصارنا لا يمكن ان يكونوا نسوا ما حلّ بصدّام قبل بضعة أعوام وقد كان أعتاهم وقد جاءت جيوش الدول العظمى لإسقاطه. وليس الهوس بالصور والتماثيل سوى هوس بالتألّه حين يكون الطاغية قد أتمّ تجبّره ولا يعود ينقصه سوى أن يرغم الناس على عبادته ولما كان يعرف أنهم لن يفعلوا فإنه يعاقبهم برؤيته كيفما اتجهوا ونظروا. وعندما تحين الساعة وينفجر الغضب فإنهم يعاقبونه بحرق صوره وتمزيقها أو بتحطيم تماثيله وهذا يبقى على أي حال أرقى من التصفية الجسدية ويرمي الى افهامه أنه انتهى وبلغ آخر الطريق الذي عبّده بجثث ضحاياه وعذاباتهم.
فكرة الزعيم
ان فكرة الزعيم التي حفظتها ذاكرة التاريخ، وجسدتها السيرة الشعبية والملاحم التاريخية في سيرة أبطال من مثل أبو زيد الهلالي، وسيف بن ذي يزن، كانت تعبيرا عن ارادة شعبية صادقة في تمجيد بطولات الشعوب وتجسيدها في هيئة أبطال خرافيين أحياءا للانتصارات وتذكيرًا بالانكسارات. وكلما عظم البلاء، وساد الإحباط، وعجزت الشعوب عن إيجاد سبيل لمأزقها تبلورت فكرة الزعيم، ومقابل فكرة تخليد الشعوب لرموزها فان الطغاة يتعمدون تخليد أنفسهم بشكل قسري حتى على التأريخ، فيقيمون النصب والتماثيل الشخصية الضخمة وفق قياسات خاصة تتجاوز المنطقين quot; الفني quot; والأخلاقيquot;، في الحجم والعدد.
بين ماوتسي تونغ و كونفوشيوس
وكان المشهد مثيرًا لصحافيين وأكاديميين هولنديين حين زاروا بكين في السبعينيات، وهالهم الجداريات والتماثيل الضخمة التي تخلد ماوتسي تونغ، وسط المساحات الخضراء والزهور، وعلى رغم إنهم ابدوا إعجابا بجمالية بالأمكنة التي تحتضن أصنام الزعيم لكنهم أحسوا بان ثمة رائحة تزكم الأنوف تبعث من هناك وهي رائحة العبودية، وغياب الصوت الآخر.
وحين عاود بعضهم السفر إلى بكين العام 2011 حيث ينتصب تمثال كونفوشيوس الضخم قرب ميدان تيانانمين في بكين، والذي انتهى انجازه في نفس العام، في إشارة أخرى إلى تخليد الفيلسوف الأشهر في الصين، وجدوا ان عبودية الأصنام انحسرت إلى حد ما لكن هناك حاجة الى المزيد. و يرتفع تمثال كونفوشيوس الذي يبلغ طوله 7.9 أمتار ووزنه 17 طناً، امام المتحف الوطني بعد ترميمه، مقابلا لجدارية البورتريه الشهير للزعيم الصيني ماو الذي يهيمن على بوابة السلام السماوي، حيث يجد الشعب في تمثال كونفوشيوس، الرمز الأكثر تعبيرًا عن تطلعاتهم وهمومهم من بورتريه ماو، والذي تعرض للأضرار أبان الثورة الطلابية في السبعينيات.
أصنام من لحم
وعلى ذات المنوال في الدول العربية فان الشعوب بدأت تضيق ذرعا بأصنام الزعماء المزروعة في قلب المدن العربية، ولعل الظاهرة الأبرز ان الاحتجاجات حينما اندلعت كما في تونس ومصر وسوريا وقبل ذلك العراق العام 1992، فان الخطوة الاولى كانت هدم تماثيل الرئيس في دلالة واضحة على ان الجماهير تقصد الزعيم أولا وتسعى الى إزاحته وإجباره على الرحيل.
ويبدو ان كثيرا من الزعماء أدمنوا على رؤية صورهم في جداريات تجسد شخوصهم في تماثيل، كسبيل لإظهار الشعور بالقوة مقابل تغييب الفعل الجماهيري وإبراز جبروت القائد الرمز.
وإذا كان زعماء الدول ولا سيما في الدول الدكتاتورية جعلت ذلك جزءًا من عقيدتها في تعزيز مكانة الزعيم الفرد فانه في دول عربية مثل العراق ولبنان حلت جداريات الزعماء المحليين محل جداريات الزعيم الأوحد.
في العام 2003 انهال شباب الشيعة العراقيين على تمثال للرئيس صدام حسين لتكسيره في عملية استعراضية.
وتجمع أكثر من عشرين شابًا حول التمثال في محاولة لإسقاطه فما استطاعوا، فبدؤوا بضرب قاعدته بقضبان حديدية، وحين لم يسقط التمثال فإن الأمر استدعى تدخل إحدى الدبابات الأميركية التي فشلت هي الأخرى في تحريكه فتدخلت آلية رفع أميركية ضخمة وأسقطت التمثال.
وشجع النظام العراقي السابق علي إقامة الجداريات والتماثيل التي تمجد الزعيم، وأمام كل مؤسسة تجد جدارية كبيرة لصدام حسين، وعلقت صور الرئيس في الدوائر وقاعات الدرس، ورفعت في المهرجانات الرياضية.
وتحتفظ الذاكرة العراقية بصورة الرجل الذي مسك بصورة كبيرة لصدام في احدي شوارع بغداد وهو يركلها بحذائه. وكجزء من ملامح التغيير السياسي في العراق، اقيم العام 2005 تمثال لرئيس وزراء العراق الأسبق بعد الاطاحة بالملكية عبد الكريم قاسم الذي اطيح بحكمه على يد حزب البعث في العام 1963 في شارع الرشيد وهو المكان الذي تعرض فيه موكب الزعيم قاسم الى محاولة اغتيال في عملية العام 1961 شارك فيها صدام حسين.
العراق ولبنان.. زعامات محلية
وانتشرت في العراق بعد العام 2003 الجداريات الضخمة للمراجع الدينية، وجداريات الزعماء المحليين وربما فاقت في أعدادها جداريات صدام حسين.
وتصب حرب الصور ذروتها في الانتخابات في العراق ولبنان، ولن تجد زعيمًا واحدًا لم ترفع صوره. وبسبب ذلك تقسم المدن الي مناطق نفوذ حدودها الصور. ويقول محمد تويني وهو لبناني يعيش بهولندا: انه راي لبنانيين يمزقون صور زعامات لا يدينون لها بالولاء ولعل ذلك أسلوب تعود عليه جمهور معين بلبنان.
وتبلورت صنمية الزعيم العراقي في شكل وحجم التماثيل والبورتريات التي ملأت ساحات العراق وقاعاته. ويمكن القول ان النمط الستاليني قد غزا النحت والتصوير العراقي خلال الأعوام الثلاثين الماضية. في محاولة لتقليد ستالين وأسلوبه في الحكم.
لكن الجداريات والصور التي مجدت زعيمًا واحدًا بالعراق، شيدت علي أنقاضها اليوم مئات الجداريات، ورفعت آلاف الصور لزعماء وقادة أحزاب عراقيين، وفي كل مكان.
ويروي احمد فاضل من بغداد كيف انه حطم ورفاقه احدي جداريات صدام، ليقام علي انقضاها جدارية لزعيم ديني. ويضيف أحمد: لا اعتقد ان الامر قد تغير في موضوع تمجيد وتقديس الزعيم العراقي!
جداريات على أنقاض أخرى
وترتفع شاهقة في الشارع العراقي جداريات ضخمة تتوسط المدن والأقضية والنواحي والقصبات. وفي الطريق الي بغداد والذي يمتد بطول 600 كم من أقصي نقطة في الجنوب، تنتشر وعلي مد البصر عشرات الجداريات العملاقة ومتوسطة الحجم، رسمت عليها صورًا لرجال دين وزعماء روحيين.
ويبدو ان الجداريات الكونكريتية التي كانت تحمل رسوم صدام، مازالت قائمة، مع تغيير في المضمون فقط.
ويتحدث سامي حسين من العراق وهو رسام، أن هناك سباقًا على امتلاك الجداريات بين الأحزاب وكل حزب يرغب في وضع صور زعيمه عليها.
وفي لبنان أيضًا أزاح أنصار حزب الوطنيين الأحرار العام 2010 تمثال للرئيس الراحل كميل نمر شمعون.
وفي لبنان تنتشر صور الزعماء اللبنانيين في كل مكان، وأصبح بالإمكان معرفة ساحات النفوذ واتجاهها السياسي والطائفي من صور الزعامات المعلقة علي الاعمدة وفي اعلي البنايات.
وعلقت صور الحريري في كل مكان ببيروت بعد اغتياله، وأصبح حمل صوره تجسيدًا لمعارضة الحكومة.
وودع سعد الحريري السرايا الحكومية بطريقته حين أزاح الستار عن تمثال والده الرئيس رفيق الحريري عند المدخل الشرقي للسرايا.
وفي العام 2007 كان لا بد لحزب الله اللبناني من تخليد حربه ضد إسرائيل بإقامة جدارية عملاقة مقابل مستوطنة إسرائيلية، تحمل في كل جانب منها صورة الأمين العام لـلحزب حسن نصر الله.
وفي طهران ترتفع جداريات ضخمة لمؤسس الجمهورية الاسلامية آية الله الخميني والمرشد الأعلى علي خامنئي. وفي بلد مثل كوريا الشمالية صارت صور الرئيس معلمًا بارزًا في كل المدن. وكان الرئيس الكوبي فيدل كاسترو حريصا على تفقد تماثيله وصوره، وكان يوجه بترميمها.
وفي الثلاثينيات كانت موتيفات الفنون السوفياتية قد جسدت صورة أيقونية للزعيم ستالين باعتباره البطل والمخلص.
وظهر ستالين العريض المنكبين، الفارع الطول، والفارس التاريخي في لوحة اكتوبر وهو يقلد جموع العمال والفلاحين. كما ظهر الزعيم في لوحة quot;خطاب ستالين في مصنع ديناموquot;وسط الجماهير رافعًا يده وهي صورة مستوحاة من ايغونغرافية المخلص السيد المسيح.
فلاح المشعل: السقوط داخل الذوات
يرى الصحافي والكتب العراقي فلاح المشعل في حوار مع quot; إيلاف quot; أن تمزيق صور الرؤساء أو هدم جدارياتهم وكل ما يشير لتمجيدهم من قبل الجمهور المحتج والثائر يشكل تعبيرًا عن ذروة الرفض والحاجة لإسقاط رمزية الرئيس وحكومته في الشارع بعد ان أسقطت داخل الذوات، وتلك واحدة من الإشارات الدالة على سقوط نظام الحكم وهو ما ينبغي ان يتلقاها الرؤساء بوعي وتسليم للأمر الواقع.
الاستبداد.. أسلوب مشترك
ويبدو ان أسلوبًا مشتركًا في نحت تمثال البطل الأسطورة قد انتشر في دول كثيرة، وكل ذلك تجسيد خالص لفكرة تمجيد الذات وعبادة الشخصية وعنف الحكم الاستبدادي، حيث قلدت دولاً عربية طريقة تخليد الزعيم عبر أصنام من حجر في قلب المدن.
رموز القهر
ومع تململ الشعوب من رموز الحجز سعت في غلب الأحيان إلى التعبير عن تحديها للانظمة بتحطيم رموزها.
ففي العام 2009 وقع انفجار بالقرب من تمثال لينين بمدينة بطرسبورغ، وبحسب مصادر فان الحادث كان متعمدا من قبل ناقمون على الزمن الشيوعي في روسيا.
وعبّر بعض الكويتيين عن كرههم للزعيم الذي غزا بلدهم بدهس صوره بالأحذية. واقتنت ديوانية في الكويت صورة لرأس تمثال صدام بدا من حولها الشاعرون بطعم النصر على صدام وهو يضعون التمثال الرأس عند أقدامهم.
وأحرقت الاحتجاجات الشعبية العام 2011 صور القذافي وجداريات ومجسمات كتابه الأخضر.
ورفعت المؤسسات الرسمية والأهلية في مصر اسم وتماثيل الرئيس السابق حسني مبارك من على واجهات المباني والمنشآت حفاظًا على سلامة تلك الأبنية من التعرض لعبث الغاضبين.
وفي سوريا توجه الآلاف إلى مركز مدينة درعا، حيث أحرقت صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد، كما هدموا تمثالاً لوالده حافظ الأسد. وأزالت السلطات في جورجيا تمثال الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين المصنوع من البرونز الذي يبلغ طوله ستة أمتار من الساحة الرئيسية في وسط مدينة جوري، مسقط رأسه حيث نقل التمثال إلى متحف. وبعد أن استقلت جورجيا عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، قامت الحشود بتحطيم تماثيل لستالين ولينين في جميع أنحاء البلاد.