عبد الوهاب بدرخان

لا تزال في الأذهان تلك الصورة للجنرال الصربي ملاديتش ملامساً خد فتى بوسني باكٍ في سبرينيتشا، لطمأنته والتخفيف من هلعه. وقتل الفتى بعد قليل من رحيل الكاميرات. وكان ملاديتش زار مواقع البوسنيين الأسرى، سمع صرخاتهم، وتوسلاتهم، وقال أكثر من مرة، على ما يروى، أن أحداً لن يتعرض للأذى. لكن المذبحة أودت بحياة ما لا يقل عن سبعة آلاف رجل. وإذ روّع الأوروبيون مما اعتبروه أسوأ جريمة حرب منذ الحرب العالمية الثانية، لا يزال الصربيون يمجدون quot;بطل الأمةquot; ملاديتش الذي ارتبط اسمه بفظاعات quot;التطهير العرقيquot; والاغتصاب الجماعي المنهجي.


مجرم الحرب هذا انتقل الأسبوع الماضي إلى ما وراء القضبان، بعد ستة عشر عاماً من الفرار والتخفي، وسيعود خلال أيام تحت سقف واحد مع المجرم الآخر quot;رادوفان كاراجيتشquot; في سجنهما الهولندي حيث سيحاكمان. هذا نبأ جيد لذوي الضحايا، ولجميع المؤمنين بالعدالة عنواناً حضارياً مناقضاً للوحشية والبربرية وشريعة الغاب في مسيرة التقدم البشري، لكنه نبأ مقلق ومرير، لأكثر من سبب.

لعل الأهم أن جرائم الحرب ومجرميها ترتبط بالحكومات عموماً أكثر مما ترتبط بجماعات، وأن الحكومات تمعن في التستر عليها وعليهم. فحرب البوسنة دامت ثلاثة أعوام ونيف عملياً، فيما استغرق إحقاق العدل وسيستغرق أكثر من عشرين سنة. ثم أن حكومة بلجراد سلّمت المجرم الأول سلوبودان ميلوشيفيتش عام 2000 بصعوبة وبعد ضغوط هائلة. ثم سلّمت الثاني كاراجيتش وأخيراً ملاديتش في إطار مساومات على عضوية صربيا في الاتحاد الأوروبي وعلى استقلال كوسوفو وعلى ملفات عديدة لتحسين صورتها وإنهاء عزلتها الدولية. كانت بلجراد تعرف مكانهما ولولا الضرورة لما سلمتهما. ولا يزال غوران حاجيتش، المطلوب الرئيسي الرابع، متوارياً.

هناك آخرون سواء من مجرمي الحرب النازيين، أو من مدبري مجازر رواندا وأوغندا وجواتيمالا، لا يزالون مطاردين، تنتظرهم المحاكم لتغلق ملفاتها المفتوحة منذ أعوام طويلة. بل هناك جرائم ومجرمو حرب، ومرتكبو جرائم ضد الإنسانية، ملفاتهم قديمة مجمدة أو حديثة تخضع لمساومات وتسويات، وبالتالي لم يسمح للمحاكم بأن تتقدم فيها. والأخطر هو جرائم الأحداث الجارية، جرائم اليوم، التي باتت وقائعها تصل إما بالبث شبه المباشر أو بالأشرطة المسجلة هاتفياً والموزعة على الشبكة في غضون اللحظات التي تلي وقوع تلك الجرائم.

ما يؤلم أن مسألة كهذه خضعت وتخضع لصراع مفاهيم مرتبط بصراع مصالح. كانت المحكمة الجنائية الدولية شكلت أملاً منبثقاً من عتمة العالم، وقيل أن نهاية الحرب الباردة فتحت الأبواب لتدعيم العدالة الدولية واحترام حقوق الإنسان. لكن ما الفائدة من محكمة مكبلة بـquot;فيتوquot; في مجلس الأمن، وأي دور محترم لمحكمة تنشطها أو تعطلها دول لم توقع أصلاً على معاهدة إنشائها؟ لحسن الحظ أن هناك محاكم quot;خاصةquot; لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة مثلاً، أو لمجازر رواندا، أو لجرائم الاغتيال السياسي في لبنان. وهذه رافق إنشاؤها وعملها كثير من الجدل، جدل استقلاليتها وبيئة العمل داخلها ومدى تعاون الدول المفيد وأجهزتها الاستخبارية معها.

في العديد من الحالات تصرفت الدول الكبرى المتقدمة انطلاقاً من احترامها لسيادة القانون، وفي حالات أخرى اختارت عمداً وعلناً تجاهل جرائم أشعرت العالم بالخزي والعار. قد لا تشعر واشنطن وعواصم أخرى بتأنيب الضمير، لكنها مطالبة بالرد على تساؤلات عالمية عن دوافع استثناء الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب الإسرائيلية من المحاسبة والعقاب. فمن غير المبرر أن لا تكون هناك محاكم خاصة لجلب السياسيين والعسكريين الإسرائيليين وإخضاعهم للقانون. كان الفارق الزمني بسيطاً بين مذبحة سبرينيتشا عام 1995 ومذبحة قانا في لبنان عام 1996حين كان شمعون بيريز رئيساً للحكومة وإيهود باراك رئيساً للأركان، وكلاهما مثل ملاديتش قتل ضحاياه على مرأى من قوات الأمم المتحدة. أما جرائم شارون -وأشهرها صبرا وشاتيلا- وشاؤول موفاز، فلا تزال تطادرهما حتى أن الثاني يحاذر السفر إلى دول غربية لا يضمن مسبقاً أنه لن يعتقل فيها.

أكثر من الكيل بمكيالين، أنه عبث بالعدالة يخربها ويفسد فاعليتها. ثمة حاجة إلى إعادة الاعتبار لمكانة العدالة ومفاهيمها النزيهة التي لا تميز بين مجرم وآخر. فأخطر ما يرتكب بهذا التطبيق الانتقائي أنه يساهم، بل يشجع على إنتاج مزيد من جرائم الحرب ومجرميها.