حمد الماجد


بعد القصف الدموي والإصابات الخطيرة التي تعرض لها بالأمس الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، أثبت بن علي التونسي للمرة الثانية شطارة فائقة حين أسلم ساقيه للريح وفر بجلده بعد اندلاع الثورة الجماهيرية في تونس لينعم بقية حياته بملايينه التي التقطها من فم شعبه الجائع.. فقد أحسن قراءة المشهد الجماهيري التونسي الثائر، وقرر بعين الخبير الأمني أن حياته وحياة عائلته لو عاند وقاوم في خطر، وحتى لو نجا فلن ينجو من الملاحقة والمحاكمة. كان قرار بن علي بالفرار سيبدو عاديا ومنطقيا لو أنه كان الضحية المتأخرة للثورات العربية، فرأى ما آلت إليه أحوال حسني مبارك وعلي صالح، لكن قراءته الواقعية للمشهد الثوري ومآلاته وهو الضحية الأولى للثورات العربية جعلته عميد المخلوعين وزين الهاربين.

تقول بعض المصادر إن حسني مبارك وعلي صالح كانا يلومان بن علي مع شيء من السخرية على عجلته في الفرار، والوقائع على الأرض أثبتت أن بن علي كان أدرى بمصلحته منهما، فالأول آلت به الرغبة في أن تكون نهايته مختلفة عن نهاية بن علي إلى وحشة الزنزانة، ومعه ولداه وحاشيته، يعيش حياة نكدة مع ساعات التحقيق المهينة، وانتهى الثاني مثخنا بجراح خطرة هو وعدد من كبار مسؤوليه ومستشاريه، وهذا هو السيناريو الأقل خطورة.. والسيناريو الأخطر أنه ترك بسبب عناده ومراوغته وصلفه وثعلبيته بلدا على شفا حرب أهلية.

لقد أثبتت التجربة اليمنية أن الرؤساء العرب الذين يتسربلون بثوب الديمقراطية زورا وبهتانا لا يختلفون في النهاية أبدا عن الرؤساء الديكتاتوريين القمعيين، أي لا فرق مثلا بين بن علي وعلي صالح، صحيح أن اليمن في عهد علي صالح ينعم بشيء من مظاهر الديمقراطية laquo;الملعوب فيهاraquo;، مثل البرلمان المنتخب والحق في التظاهر والحرية الإعلامية، لكن كل هذه المظاهر مقبولة إلى الحد الذي لا يعرض تفرد الزعيم بالسلطة للخطر، ولهذا حين حدث المحك الحقيقي وقامت ثورة يمنية شعبية أذهلت العالم بسلميتها في بلد مسلح يحتفظ بعض مواطنيه براجمات الصواريخ والدبابات في أحواش بيوتهم، خرج الزعيم على حقيقته الديكتاتورية، وصار هو الطرف الدموي الوحيد في المعادلة، ولم يكتف بالسنوات الثلاثين في زعامة بلاده، بل أراد أن يقلب اليمن كله إلى جحيم آخذا بالقاعدة العربية الشهيرة laquo;إما أن أحكمكم أو أقتلكمraquo;، أو laquo;لنا الصدر دون العالمين أو القبرraquo;، مع أن القبر عند العرب الأوائل كان للمتزعم إذا لم يتصدر، وأما القبر في عهد الرؤساء العرب فللجماهير إذا زحزحوهم عن الصدارة.

الزعيم اليمني الذي خدع شعبه والعالم بفتات من مظاهر الديمقراطية جعل رئيسا قمعيا مثل بن علي أفضل حالا منه، لأن الأخير في النهاية كان أكثر شجاعة حين اتخذ قرار الفرار فنجا متمتعا بمسروقاته، وسلمت بلاده من فتنة الحرب الأهلية، أما علي صالح فكان مدرسة في الدهاء والمراوغة، فلم تفلح معه الوساطات ولا مبادرات الدول الخليجية، فانتقل من مراوغة شعبه إلى مراوغة الدول التي أرادت مخلصة تجنيب بلاده الانزلاق إلى حرب أهلية. لقد ظن أن مراوغاته القديمة وعبثه بالملفات الخطرة مثل القبليين والحوثيين والقاعديين والإسلاميين والجنوبيين، وlaquo;تنطيطاتهraquo; التي نجح في كثير منها، ستفلح هذه المرة، لكن laquo;ما كل مرة تسلم الجرةraquo;، لقد laquo;نطraquo; هذه المرة على laquo;القبليةraquo; وهي الأخطر على الإطلاق فوقع كسيرا حسيرا ولا نظنه يقوى على القيام بعدها. لقد تجاوز الرئيس الذكي، بقرار غبي، خطا أحمر، وهو قبيلة الأحمر، فتلطخ بالدم الأحمر.