منح الصلح

كان من الطبيعي وحديث الثورات يتصاعد في بعض البلدان العربية أن تقفز الى الصدارة الثورة الاشد انغراساً في النفس العربية منذ زمن بعيد أي الثورة الفلسطينية التي لا تزال نارها مشتعلة حتى الان في نفوس الفلسطينيين والعرب بل في حركات وقطاعات شعبية واسعة ومؤسسات راسخة في مناطق مختلفة من العالم.

وبخلاف ما تعتقد جهات متعددة هنا وهناك عمياء في تعصبها او جهلها فإن الثورة الفلسطينية تبقى الاكثر تجذرا وسطوة في عيون الكثرة من البشر ممن يعيشون بعمق حقائق الماضي والحاضر والمستقبل. ولعل احدا لن يفهم الثورات العربية الحاصلة وربما غير العربية ما لم يتعامل مع الثورة الفلسطينية كواقع سواء فوق الارض او تحت الارض.

وأول من هم مطلوب منهم اتخاذ الثورة الفلسطينية مدرسة لهم هم العرب، لا ليفهموا ما جرى في فلسطين ومع الاستعمار البريطاني والتسلط الصهيوني، بل ليفهموا الواقع الذي هم فيه، فلا شيء مما يحصل في أرض العرب حتى الآن يمكن ان يكون مفهوما من دون فانوس سحري اسمه خبرة الثورة الفلسطينية.

إن العربي الجدي والمعاصر قد لا يكون قادرا على فهم كل شيء جوهري في الحياة العربية الا اذا هو عرف كيف يحلل وقائع الحياة المحيطة به وفانوس التواصل في يده.

التواصل هو الممارسة التي تعتمدها النخب والقيادات الجدية داخل كل وطن، وما بين شعوب الأوطان المتعددة. وإذا كان التقدم لا يستطيع إغفال فاعلية الفرد والفردية في شق الطريق الى المستقبل سواء للأفراد أو الجماعات فإنه لا يستطيع أيضاً وبصورة متصاعدة باستمرار الاستغناء عن الروابط المفروض أن تكون جامعة سواء داخل الأوطان أو في ما بينها..

ولعل الانسانية في تطورها تعيش أكثر فأكثر همّين: كيف تصون الحقوق الفردية وكيف تدفع بالجماعة الى أمام. ولعل ذلك صرخة العصر تصلنا اليوم نحن العرب بقوة وكأنها أولوية الأولويات وها أننا نواجه نحن العرب جميعاً وليس الفلسطينيون وحدهم إشكاليات عملية المصالحة بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;.

فنادراً ما انشدّ الضمير العربي الى عملية سياسية مثله اليوم في الترحيب بالجهد المبذول عربياً الى إتمام المصالحة بين حركتي quot;فتحquot; وquot;حماسquot;. فالتاريخ يقول إن الانتداب البريطاني على فلسطين جعل شغله الشاغل منذ دخوله الأرض الفلسطينية الى آخر يوم قضاه فيها، تمزيق نسيج الوحدة الوطنية الفلسطينية عائلات ومناطق واتجاهات فكرية وسياسية. ورغم الجهد المبذول من قبل الانتداب في تمزيق النسيج الوطني الفلسطيني حافظ الشعب الفلسطيني على وحدته، فالفلسطينيون ظلوا رغم كل الجهود المبذولة موحدين، بل عنصراً في توحيد الأمة العربية وراء راية العروبة الجامعة. ولا شك في أن نكبة فلسطين كانت ولا تزال تلعب دوراً في تقريب العرب بعضهم الى بعض.

إنه فعلاً من ظواهر سلامة التأثيرات العربية الايجابية للقضية الفلسطينية على الحياة العربية الاهتمام الكبير الذي يعيره العرب في كل مكان للعملية السياسية الدائرة حالياً والهادفة الى تحقيق التقارب بين حركتيْ quot;فتحquot; وquot;حماسquot; بعدما تبينت مخاطر التباعد بين الحركتين الفلسطينيتين.

إن التقارب مطلوب بين قادة كلّ حركة سياسية داخل الوطن الواحد فكيف اذا كانت الحركة جدية ومصيرية في نظر العديد من شعوب العالم كالحركة الفلسطينية موضوعها استرجاع أرض أخذت من أصحابها الأصليين لتعطى الى غيرهم من الطامعين الوافدين من كل أرض.

لا نغالي اذا قلنا إن مصالحة حركة quot;فتحquot; وحركة quot;حماسquot; كانت ولا تزال ظاهرة جدية تشعر العرب دائماً بالحاجة إليها، فهي تتعلق بقضية حق مميزة بين قضايا كل شعوب العالم وقلما توجد مثيلات لها في الوضوح فهي قضية شعب مالك لأرضه منذ آلاف السنين، ويراد انتزاعها منه من دون أي وجه حق.

التهنئة لمصر ما بعد مبارك على توجهها الذي أيقظ الى توحيد الصف الفلسطيني، فليس أبشع من استمرار الخلاف الفلسطيني بين حركة quot;فتحquot; وحركة quot;حماسquot; إلا تأخر مصر عن لعب دورها الطبيعي في تقريب العرب الى بعضهم بعضاً، بدءاً بالمستهدفين منهم ماضياً وحاضراً في ديارهم وحقوقهم وفي ذات هويتهم أي القضية الفلسطينية.

وقد جاءت عملية التقريب بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot; في وقت ما كان يحتمل الموقف العربي مزيداً من التناحر، إذ كانت قد دأبت على القول إن النضال الفلسطيني والعربي هما البتلاديفية صنوان، ولكن تفاهم quot;فتحquot; وquot;حماسquot; قد جاء زمنياً قبل مقتل ابن لادن بحيث استحال على الصهاينة وأعداء العرب رمي النضال العربي والفلسطيني ولو كذبا مفضوحا بتهمة الارهاب.

وهنا لابد من القول إن النضال الفلسطيني كان ولا يزال في نظر العدو والصديق أحد أشر النضالات التي عرفها التاريخ البشري والفضل للعمل الفلسطيني منذ أيام الحاج أمين الحسيني مروراً بأيام ياسر عرفات وصولاً حتى أيامنا هذه في المحافظة على نقاء النضال الفلسطيني والعربي من أي شائبة وكما ان الفرنسي غوستاف لوبون قال في الماضي: quot;ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العربquot;، فإن كل كبير وشريف من قادة العالم لا يمكنه إلا أن يشهد للنضال الفلسطيني انه كان ولا يزال أشرف نضال عرفه ويعرفه التاريخ العربي والعالمي الحديث.

فالقضية الفلسطينية هي في نظر جماعات متكاثرة باستمرار في العالم قضية العصر، وقد مضى الزمن الذي كان فيه داخل أوساط كثيرة في العالم من يفخر بأنه مناصر للصهيونية ومؤيدها في ما فعلت وتفعل في فلسطين. ومنذ غياب ثنائي هتلر الألماني وموسلليني الايطالي والنظرة في الأوساط الغربية الى الصهيونية وممارساتها على أرض فلسطين سلبية، ومن الغريب أن يستمر في النظر إليها على أنها تأثر اليهودي المغلوب بغالبه النازي الالماني والفاشي الايطالي، فهو مريض بداء التشبه بغالبه النازي والفاشي. أما الفلسطيني العربي فمرضه في عزة نفسه، فهو لا يرغب في أن يمد يده لأبناء دينه وقومه من أغنياء العرب.

لقد تحول كل أوروبي وكل أميركي شمالي في نظر شركائه في الجنسية التي يحمل الى معذور في عدم النظر الى حق العربي الفلسطيني في أرضه. وهكذا يصبح العربي الفلسطيني وفق هذا التحليل مركولاً الى فوق من إخوته وأبناء عمومته عرب الجوار، فهو صاحب حق..