ياسر محجوب الحسين

اليوم السبت هو يوم قطف ثمرة قانون المناطق المقفولة في السودان.. إنه يوم عيد (وطني) في إسرائيل.. التاريخ يحدثنا أن السودان كان من بين الدول المرشحة لتوطين اليهود قبل فلسطين، فقد كتب اليهودي quot;واربورتquot;، الخبير بشؤون الفلاشا عام 1900م، اقتراحاً إلى اللورد quot;كرومرquot; في القاهرة بذلك، وقدّم يهودي آخر هو quot;أبراهام جلانتquot; نفس الاقتراح عام 1907م إلى رئيس المنظمة الإقليمية اليهودية..كل الزعماء الصهاينة من بن جوريون وليفي أشكول وجولدا مائير وإسحاق رابين ومناحم بيجين وشامير وشارون وأولمرت تبنوا خطا استراتيجيا واحدا في التعامل مع السودان يقوم على تفجير أزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب.. أخطر ما في الانفصال أن الانفصاليين ارتضوا تدويل الجنوب لمصالح اللوبي الصهيوني واليمين المتشدد الأمريكي وخضعوا للإغراءات لفصل جنوب السودان.. إسرائيل دربت حوالي (20) ألف مقاتل متمرد على حدود أوغندا الشمالية، بل أقامت جسراً جوياً إلى مناطق التمرد في مارس 1994م!!. ديفيد بسيوني اليهودي الأصل، كان مرشحاً لرئاسة حكومة الجنوب.
القانون الاستعماري قانون المناطق المقفولة قضى بتحويل جنوب السودان كاملا إلى منطقة مغلقة ولا نقول شططا إن قلنا أن ذلك كان بمثابة الإعلان الأول لتقسيم السودان جغرافيا.. إذن لابد لنا أن نحفظ حق الملكية الفكرية لأوضاع التقسيم وحدوده لبريطانيا الامبراطورية التي غابت عنها الشمس!!. لم يكتف المستعمر البريطاني بسجون كوبر ودبك وغيرها من سجون السودان الشهيرة بل أراد صنع سجن كبير لأهل الجنوب يمنعهم من التواصل والاتصال مع الشمال.. القانون الظالم منع هجرة أو تواجد الجنوبيين في الشمال ومنع هجرة أو تواجد الشماليين في الجنوب مستهدفا خلق كيان جنوبي يحول فيه الاختلافات الشكلية إلى نقاط خلاف مستعصية.. هدف القانون تمزيق وتقطيع أواصر اللغة والثقافة والدين.. منع القانون استخدام اللغة العربية وتحريم استخدامها في الجنوب وترحيل الموظفين ورجال الأعمال المسلمين الشماليين إلى الشمال مع إطلاق يد البعثات التبشيرية المسيحية لتصنع ما تريد وفرض الاحتلال استخدام اللغة الإنجليزية كلغة تعامل رسمية كما منع استخدام الأسماء وحتى الملابس العربية.
لا نقول أن (4) ‬ملايين مواطن جنوبي شاركوا في استفتاء تقرير مصير الجنوب يتحملون وزر خيار الانفصال ولكن نقول إن الجنوب انفصل فعليا بعد تطبيق الإنجليز لقانون المناطق المقفولة.. أيضا نستطيع القول إن الأمر الذي جعل الانفصال قاب قوسين أو أدنى ليس تفريض جهة ما أو بسبب اتفاقية السلام نفسها، ولكن الواقع أن العقلية التي أدارت بها الحركة الشعبية في الجنوب رؤيتها السياسية هي السبب، إذ كان واضحا منذ البداية أن الحركة تريد اختطاف السودان بمكوناته الثقافية في إطار ما تسميه بمشروع السودان الجديد، وعندما استحال الأمر انكفأت على نفسها واتخذت من الانفصال طريقا باتجاه واحد، ووجد الانفصال دعما كبيرا غير محدود من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي.. علينا منذ اليوم أن نكون مستعدين ليكون السودان جاراً لكيان لاشك أنه في طريقه للتحالف مع الكيان الصهيوني، أو مع الولايات المتحدة على أقل تقدير.. ما يحدث للسودان يحدث في العراق، حيث الدولة الكردية باتت واقعاً ملموساً، ومن لا يعلم مدى النفوذ الصهيوني في كردستان العراق؟!الدعوة الصريحة للانفصال التي تبنتها الحركة الشعبية منذ قيامها وجهرت بها على وجه سافر جعلت نواجذ إسرائيل وأمريكا تظهر من فرط السعادة ونشوة (الانتصار)..
المنظور الاستراتيجي للأمن القومي الإسرائيلي يرتكز على أن سودانا ضعيف ومجزأ وهش أفضل من سودان قوي وموحد وفاعل، ولذا لا يجب أن يسمح لهذا البلد أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي ولابد من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة من حكومة السودان لبناء دولة قوية موحدة.
لن يهنأ الجنوبيون بالانفصال مثلما تهنأ به بريطانيا الأب الشرعي لأمريكا وإسرائيل لأن الانفصال يحد ويقلل من مساحة الحرية وحقوق المواطنة لتنحصر فقط في 250 ألف ميل مساحة الدولة الجديدة.. الانفصال يقلل من حجم المشاركة والاستيعاب السياسي وتستعر المنافسة حول الوظيفة السياسية والنزاع المتداخل مع البعد القبلي ليشكل بيئة مواتية للفوضى وعدم الاستقرار.. الانفصال سيقلل فرص أبناء الجنوب في الخدمة المدنية بنسبة 22 ndash; %30 في المركز والولايات الشمالية، مما سيولد ضغطا تنوء بحمله الدولة الوليدة.. الانفصال يسلب الجنوب أصالة حق التمتع بالموانئ والإطلالة على البحر الأحمر ذي الأهمية الاستراتيجية، فالدولة الوليدة ستكون دولة مغلقة وهي نقطة ضعف كبيرة ودائمة.. الانفصال سيجعل الدولة الوليدة تتحمل عبء ميزانية الدفاع وهي ميزانية ضخمة ستقعد بالدولة الجديدة بعد أن كانت تتحملها الحكومة الاتحادية في حالة الوحدة.