إياد أبو شقرا

laquo;قدرة المرء على إحقاق العدالة تسهل الديمقراطية.. لكن نزعته إلى الظلم تجعل من الديمقراطية ضرورةraquo;

(رينهولد نيبور)


* أعتقد أن ثمة خطأ كبيرا ومكلفا، إما في إدراك ردات الفعل العربية والدولية حقيقة ما يجري في سوريا هذه الأيام.. وهذا وارد، أو في الأخلاقيات التي تحكم ردات الفعل هذه.. وهذا مرجح.

ولكن، لئن كان الصمت العربي مفهوما كونه التعبير الأبلغ عن حالة العجز المقيم التي فجرت laquo;الربيع العربيraquo;، فكيف يمكن تبرير التلكؤ الدولي والرسائل المتناقضة الموجهة إلى laquo;حالات تسلطيةraquo; تكشف جوهر تفكيرها وفلسفة وجودها في كل يوم وكل ساعة؟

لقد صدرت الأوامر بسحب البساط من تحت أقدام نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلال 18 يوما من انتفاضة الشارع. ولم تشفع له يومذاك لا laquo;اتفاقية كامب ديفيدraquo;، ولا مسايرة واشنطن بإغلاق معابر رفح مع قطاع غزة، ولا قبوله بلعب دور laquo;الوسيطraquo; بين الشاة الفلسطينية والجزار الليكودي لسنوات.

كانت الذريعة، على ما نذكر، يومذاك إطلاق الشرطة المصرية وlaquo;بلطجيةraquo; النظام النار على المتظاهرين المسالمين في القاهرة وغيرها من المدن المصرية. قررت واشنطن إطلاق رصاصة الرحمة على نظام مبارك بعد قمع لم يطل أكثر من 18 يوما فقط، ولم يسقط فيه وفق مصادر متقاطعة أكثر من 846 شهيدا و6467 جريحا.

والآن لننظر إلى سوريا، التي كاد العالم كله يحفظ عن ظهر قلب laquo;اسطوانةraquo; وزارة الخارجية الأميركية وغلاة laquo;صقورهاraquo; وlaquo;ليكودييهاraquo; - من الحزبين الديمقراطي والجمهوري - عن أنها laquo;دولة تدعم الإرهابraquo; (!!)، وأنها متورطة في خلخلة الأمن داخل أراضي جيرانها، ثم إنها - حسب أحدث التهم - تسعى لتطوير أسلحة نووية، والعياذ بالله من أمر الله.

هذه التهم مثبتة على الأقل في واشنطن، بدليل رضا البيت الأبيض والكونغرس عن القصف الإسرائيلي لما وصف بـlaquo;معسكرraquo; عين الصاحب التدريبي قرب دمشق، وشن إسرائيل عملية استهدفت laquo;مفاعلraquo; الكبر قرب مدينة دير الزور.

ثم إن واشنطن، ومعها لفيف من الحلفاء في باريس ولندن وغيرهما من العواصم الأوروبية، ما زالت تشك في وجود دور ما لدمشق في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ورفاقه، وجرائم الاغتيال التي تلتها، ولذا أبدت حماسة منقطعة النظير داخل مجلس الأمن الدولي لإنشاء محكمة دولية للتحقيق في تلك الجرائم واقتياد الجناة إلى العدالة.

ولنضف إلى ما تقدم أن القيادة السورية، بجيليها laquo;الخالدraquo; بين 1970 و2000، وlaquo;القائدraquo; منذ 2000 وحتى اليوم، تنتهج خطا لم يتغير طيلة 41 سنة، على الرغم من الوعود الكثيرة بالتغيير والانفتاح واحترام حقوق الإنسان.

بل إن الأسس البنيوية، لا سيما الفئوية والأمنية، التي قام عليها حكما هذه القيادة السورية مفهومة جيدا في عواصم القرار الدولي، وهو ما يفترض وجود laquo;خطط طوارئraquo; في حال حدث في سوريا ما ليس في الحساب. وهذا أمر أحسب أنه ضروري جدا بالنظر إلى الدور المحوري laquo;الممانعraquo; الذي تلعبه سوريا - أقله في أدبيات قيادتها الحاكمة - على مستوى الحرب والسلم في منطقة الشرق الأوسط، أو المواجهات الاستراتيجية الخطيرة بين الغرب laquo;الصهيونيraquo; وإيران - الولي الفقيه.

فترة أربعة عقود كانت أكثر من كافية في تصوري لبلورة المجتمع الدولي صيغة laquo;علاقة تفاهمraquo;، أو laquo;تنظيم تعايش عدائيraquo;، يقبلها العقل والمنطق مع حكام دمشق. ولكن الرد على ما حصل منذ أكثر من أربعة أشهر في عموم مناطق سوريا تقريبا يثير علامات استفهام كثيرة، وعلامات تعجب أكثر..

في حالة سوريا نتكلم اليوم عن قمع لا مثيل له في كل نماذج laquo;الربيع العربيraquo;..

نتكلم عن آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين..

نتكلم عن مدن شبه مهجّرة أو محاصَرة بقصد التجويع والتركيع والترويع..

نتكلم عن استفراد تتابعي في عمليات القمع الدموي، مدينة مدينة، وريفا وريفا، في طول البلاد وعرضها..

نتكلم عن مواطنين فدائيين يتظاهرون أسبوعيا بعدما كسروا حاجز الخوف من القناصة وlaquo;الشبيحةraquo; (النسخة السورية من laquo;بلطجيةraquo; مصر) والدبابات والصواريخ، التي ضلت طريقها وسط صمت جبهة الجولان..

نتكلم عن تعتيم إعلامي ممنهج وتضليل دعائي شرس ومناورات laquo;تنفيسيةraquo; تحت مسمى الحوار..

نتكلم عن تعمد الحكم استنهاض غول الطائفية والمتاجرة به تمهيدا لابتزاز المواطنين بالفتنة المروعة..

نتكلم عن توريط الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، على الرغم منها، بينما يعلن السواد الأعظم من أبناء سوريا في كل مناسبة أنهم شعب واحد وقلب واحد وحلم واحد.

بعض أبواق الحُكم تكلمت بالأمس عن وجود مؤامرة laquo;تستهدف نموذج العيش المشتركraquo;، غير أنها سها عن بالها أنه كان حريا بأهل السلطة على امتداد أربعة عقود ممارسة ما يبشرون به، فلا يدعمون laquo;الأصوليينraquo; في العراق ولبنان وفلسطين.. بينما laquo;يخوّنونهمraquo; ويطاردونهم داخل سوريا.

ما يحدث في سوريا أسوأ بما لا يقاس بما حدث في تونس أو مصر، بل حتى ما يحدث في ليبيا واليمن. غير أن المجتمع الدولي، الذي يعرف تماما مع من يتعامل، ما زال يناور في تجريب ما هو مجرّب.

لماذا؟ لأن موقف واشنطن في هذه المسألة ينتظر قرار إسرائيل الذي ما زال ضد تغيير الحكم الحالي، وموقف حلفاء واشنطن الغربيين يبنى على أساس ما ترتئيه الإدارة الأميركية، سواء من الحكم السوري أو laquo;عمقه الاستراتيجيraquo; في طهران. وفي حين لكل من موسكو وبكين مع الولايات المتحدة حسابات خاصة عديدة، تنتظر أنقرة التوقيت المناسب والخطوة الأنسب للتحرك في إطار طموحها الإقليمي.

وسط كل هذا الإرباك، ومع تحضير القيادة السورية لعملية laquo;حل نهائيraquo; لإجهاض انتفاضة الشعب قبل حلول رمضان المبارك، وهو ما يستشف أيضا من تلميحات laquo;إسلامييraquo; الحُكم عن دور المساجد في الانتفاضة، صدقت إحدى الناشطات (بهية مارديني) بقولها laquo;الشعب قال كلمته، ومن يخرج تحت أزيز القنص الغادر ولا يهتم بالقتل والقمع، لا بد أن ينتصر لا محالةraquo;.