الاعلامية العراقية سهاد القيسي: بعد الثورات اتقسمت الفضائيات بين محرض ومضلّل!

تطالب الإعلام باحترام عقل المشاهد
لندن
التقتها فاطمة عطفة: ثورة الشباب في أكثر من بلد عربي فاجأت الجميع من مفكرين وأدباء وحتى رجال السياسة والأمن والإعلام، ويبدو أن الجسور لم تكن موصولة بين جيلنا وجيل أبنائنا، وهذه من أسرار الحياة ومفاجآت التاريخ.
في رمضان المبارك من السنة الماضية، كنت قد التقيت الإعلامية المتألقة سهاد القيسي في حوار حافل ومؤثر، وكانت ذكريات العراق وأحواله المؤلمة حاضرة في معظم حديثها، فهي بنت الرافدين وحضارتها العريقة كما أنها من الجيل الذي حرمه الحصار والاحتلال من جمال طفولته وشبابه، إنه الجيل العراقي الذي ولد كهلا مثقلا بالهموم والمسؤوليات الكبيرة، دون أن يكون له أي ذنب في صنع الأسباب التي أدت إلى الغزو والدمار.
واليوم وبعد الشعلة التي أوقدها البو عزيزي بدمه، نلتقي هذه الإعلامية الشابة لنواصل حديث الأمس، إنما بمشكلات وآمال مختلفة اختلافا كبيرا عن كل ما عشناه وقاسيناه. الموضوع السياسي الساخن الذي تجنبت العزيزة سهاد الخوض فيه هو أحوال سورية، وخاصة أنها كانت في زيارة طويلة تجولت خلالها في أكثر من مدينة. كان بودي أن تحدث قراء القدس كإعلامية معروفة من جيل الشباب وليست كشاهد عيان مجهول الهوية، لكنها آثرت أن تلتزم بأصالتها العراقية ومحبتها الصافية لسورية بشكل عام، بعيدا عن أحوالها الدامية المؤلمة، ونحن لا نملك إلا أن نحترم رغبتها هذه. والجديد في تجربة القيسي أنها استفادة من دراستها العليا في إيطاليا وقد انتهت مؤخرا من عمل وثائقي يتابع مشاهد متنوعة من حياة الإيطاليين في العالم. ولنتابع معا رأيها في دور الإعلام بعد التحول الكبير الذي أحدثته ثورة الشباب في بلادنا العربية.
*الأسباب التي جعلتك تتركين عملك في سما دبي، هل هي متاعب مهنية أو الطموح الكبير بالتغيير للأفضل
*'تجربتي بقناة سما دبي كانت تجربة مهمة جدا بالنسبة لي وجميلة أيضا، فقد قربتني من الجمهور الإماراتي المحلي وعرفته بي عن قرب، وأصبحت أكثر دراية بما يفكر به وما يشغله، وهو بالنهاية مجتمع خليجي وأنا جزء منه من حيث التقاليد والأعراف، وكان لي الشرف أن أقوم بتغطية مؤتمرات ورعايات سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي وأولاد سموه وكبار وزراء الدولة وأصحاب السمو والمعالي، وحصلت على تكريمات وشهادات كثيرة. لكن مع ذلك أصدقك القول أن قناة سما دبي لم تكن بحاجة لكفاءتي وخبرتي والمطلوب هو كفاءة أقل بكثير وخبرة أقل بكثير، بالإضافة إلى فقدان الضمان الوظيفي فقد عملت لسنتين دون عقد ثابت ودون حقوق مثلي مثل الكثيرين ما أدى إلى استقالات جماعية وإنهاء خدمات عدد من الموظفين، هذا إلى جانب عدم وجود حوار مباشر بيني وبين إدارة سما دبي فقد قدمت الكثير من المشاريع الإعلامية التي تخاطب العقل الإماراتي وشواغله والتي من شأنها جلب النفع للقناة إعلاميا ورفدها بالجديد على المستوى المحلي، لكني لم ألق آذانا صاغية من قبل إدارة سما دبي إطلاقا.
*حدثيني عن البرنامج المشترك الذي قمت بتسجيله مؤخرا في إيطاليا؟
*'هو عبارة عن وثائقي متميز يتحدث عن الإيطاليين في العالم سيعرض على القنوات الرئيسية بإيطاليا، وبالنسبة لي كانت مجموعة حوارات ومقابلات وتقارير منوعة باللغة الإيطالية تحدثت فيها عن حياتهم بالإمارات وما يشغلهم وما يفكرون به وعن أعمالهم وكيف يقضون أيامهم هنا وما هو أفق تواجدهم هنا على المدى القريب والبعيد.
*هناك محطات عربية تبث من دبي ولها توجه واحد في تقديم برامجها، هل سيكون هناك تعاون بينك وبين هذه القنوات؟
*'ليس عندي مانع، وذلك يعتمد حسب نوع التعاون الذي سيتم بيني وبين تلك القنوات وعن توجه القناة طبعا، وأنت تعلمين أن سقف الحريات الإعلامية بدولة الإمارات عال، لذلك هناك من يفتح قناة بتوجه معين وفكرة معينة أحيانا قد تتعارض وأفكاري ومبادئي أصلا، لذلك أعتذر من البداية. وقد حصل معي قبل فترة أن عرض علي في قناة عربية تبث من دبي ورفضت مباشرة لأنها معنية بالتعامل السلبي كتوجه مع دولة أخرى شقيقة'.
*يجري الحديث عن قناة جديدة في لبنان، وسكاي من لندن، وبما أنك من المذيعات اللواتي يمتلكن الجمال والخبرة الإعلامية، هل هناك عروض جديدة؟
*'هناك الكثير من القنوات الإخبارية التي ستفتح عن قريب وبي سكاي بي ستبث من أبو ظبي حسب علمي، ولا أعرف قناة تقدم عروضا لأنني لا أعرف شخصا بعينه هناك، فلكي يقدموا لك عرضا عليك أن تكوني على صلة أو معرفة ولو بسيطة بأحد الأشخاص في تلك القنوات، ولا أقصد التوسط هنا، لكن هناك العشرات يسبقونك بالكونكشنز يعني بالعلاقات الاجتماعية أو في حال كنت من أشهر المذيعين في قناة كبيرة أصلا مثل العربية أو الجزيرة في هذه الحال احتمال أن يقدموا لك عرضا من الإدارة مباشرة لأنه سيكون مكسبا لهم، بالنسبة لي الأمور تجري بالشكل التالي أنا من أقوم بتقديم أوراقي'.
*كيف تنظر سهاد إلى أداء الفضائيات العربية مع ربيع الثورات؟ هل قدمت المصداقية الإعلامية المطلوبة للمتابعين؟ أو كان هناك فرز فيما يقدم؟
*'الإعلام العربي وليد بيئة التبعية التي أصابت المجتمعات العربية بعد استقلال هذه المجتمعات من الاستعمار المباشر وانتقالها لمرحلة الانتداب والوصاية في القرن العشرين، وصولا لقيام ما يعرف بالدولة الوطنية العربية الغير كاملة الاستقلال الاقتصادي والسياسي والمعرفي والحضاري حتى اللحظة، وعليه كان الإعلام العربي متخلفا عن إيقاع حراك المجتمع وتطلعاته وهمومه في جانب مع بعض الإضاءات هنا وهناك، إلى أن ظهرت الفضائيات. وفي عصر ثورة الإنترنت والاتصالات تلاشت حواجز الاتصال بين المجتمعات وأصبح الرقيب العربي على الأرض مشدوها وعاجزا أمام السماء المفتوحة، فاختارت بعض الفضائيات العربية الحياد في موقفها والبعض الآخر أصبح مقلدا للعبة الإعلام الغربي دون وجود نفس الحاضنة الحرة المستقرة والديمقراطية نسبيا، كما في الغرب، التي تفصل ما بين الإعلام كسلطة عن باقي سلطات المجتمع عند مناقشة السياسات الداخلية لمجتمعاته'.
*مع هذه الثورات جرى فرز وتقييم بعض القنوات الفضائية، هناك من يتهم الجزيرة بتسييس الأخبار وفبركتها، ومن يشير إلى العربية بأنها استطاعت أن تمزج ما بين الشارع والنظام بحيث ترفع السقف أحيانا وتخفضه أحيانا أخرى لحفظ ماء الوجه، كيف تنظر سهاد، إعلامية ومتابعة، لتقديم هذه القنوات في هذه الفترة المهمة في تاريخ المنطقة؟
*'الإعلام لا يصنع الحدث بل يخبر عنه ويحلله، والموضوعية في العمل الصحفي والإعلامي، من حيث المبدأ، هي معيار دقيق يتطلب الكثير من الشروط لتحققه. فالموضوعية في معالجة أي موقف تتطلب أولا وقبل كل شيء التجرد من الدوافع والأغراض الشخصية والفكرية من جانب وعدم وجود عوامل الضغط والإكراه السياسي والمادي من جانب آخر. هذا يعني أن يكون الصحفي والإعلامي الذي يعرض الحدث حرا تماما من حيث الرؤيا، مستقلا من حيث زاوية التناول والطرح، ومهنيا من حيث المعالجة. ولا نستطيع الجزم بأن الفضائيات سواء العربية منها أو الأجنبية تستطيع أن توفر للصحفي جميع تلك الشروط دفعة واحدة. على المستوى النظري لا نستطيع أن ننكر وجود الموضوعية بإعلامنا لأن ذلك يعد إنكارا للإعلام العربي ذاته، ولكن موضوعية الإعلام العربي متفاوتة بتفاوت الأهداف وسياق الموقف، والأخبار التي تقدمها القنوات الفضائية حاليا عن الثورات عن طريق تصوير الموبايل تلزمها الكثير من المصداقية والتدقيق لأنه يضع الإعلام موضع شك دائم، وتعطي إحساسا للمشاهد بعدم وجود مرجعية ذات مصداقية بالأخبار.
وعن أداء الفضائيات العربية خلال الثورات، كان البعض منها محركا وفاعلا رئيسيا بتلك الثورات مجيشا للشعوب إعلاميا وعاطفيا. وأنا شخصيا أحببت متابعة قناة الجزيرة بتغطية الثورة العظيمة في مصر وتفاعلت عاطفيا مع الشيخ إمام في أغنية الشاعر نجيب شهاب الدين ((يا مصر قومي وشدي الحيل لا القهر يطويني ولا الليل)) ولا أنسى مقولة الرجل الطيب في ثورة تونس المباركة ((لأننا هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية)).
وهذا ليس بدور الإعلام بتاتا التلاعب بمشاعري وأحاسيسي وعواطفي كمشاهدة، هذا ما يسمى بالإعلام التعبوي. ولأن من تلك القنوات من يرفع شعار الرأي الآخر وقول الحقيقة والخبر الصادق وغيرها متناقضا مع ما يلمسه الجمهور من تلك القنوات من رأي أوحد واحد وشاهد عيان وإحصائيات ضخمة وقانونيا ((يجب أن يكون هناك شاهد إثبات وليس شاهد عيان مجهول الهوية)). والسبب تعزوه القنوات لعدم وجود تصريح بالدخول للتصوير، لا بل هناك لا بد طريقة لتصوير الحقيقة والحدث والشارع دون تشويه لأنها مسؤولية إعلامية يقع عليها مصير شعب كامل'.
*سمعت أنك كنت في سورية، هل زيارتك كانت سياحة أو بهدف العمل؟
سورية من البلدان العربية التي لها وقع إيجابي في نفسي، سورية الجميلة والمتنوعة بمناخها والقديمة والأصيلة بشوارعها وأحب زيارتها لأنها تذكرني بطبيعة العراق وفيها شواهد رومانية وجوامع وكنائس لها قيمتها المعنوية والأثرية في قلبي وقلوب كل من يزورها، كما أحب ناسها الطيبين المتمسكين بتقاليدهم العربية الأصيلة'.
*كيف شاهدت الشارع السوري في المدن التي قمت بزيارتها؟ هل يوجد خوف بين الناس؟
*كانت سفرتي طويلة هذه المرة حيث تنقلت بين الشام وبعض المدن السياحية والحياة طبيعية، المحال مفتوحة والفنادق والمطاعم والشوارع مزدحمة والعوائل منتشرة في الحدائق العامة يأكلون والأطفال يلعبون برفقة أهاليهم، وكان هناك بعض نقاط وسيطرات التفتيش في بعض الأماكن هذا فيما شاهدت على الأقل، أما بالنسبة للخوف فأكيد الناس والتجار والمحال ورب الأسرة والطلاب بالمدارس والجامعات يكون لديهم تخوف وهاجس من القادم ومما ستحول إليه الأمور، وأتمنى أن يعم السلام والأمن والراحة دائما في كل أوطاننا العربية'.
*بعد هذه الثورات، برأيك هل سيستمر الإعلام على حالته المعروفة، أو أنه مضطر أن يجدد نفسه ويقوم بثورة إعلامية داخلية تماشيا مع طموحات الشباب؟
*'التغيير في مسار القنوات الفضائية والإعلام بصورة عامة ظهر مع احتلال العراق ثم تعزز بثورة الشهيد البو عزيزيي على الظلم، لقد انقسم الإعلام ما بين محرض ومضلل دون النظر إلى خصوصية كل دولة ومصالحها العليا، ففي ربيع الثورات قطعت القنوات العربية بثها وعلاقتها بالعالم الخارجي وكأنه لا توجد أحداث في العالم مع بث الأغاني والشعارات، بالإضافة إلى تعاطف مقدم النشرة مع الأحداث فترينه يضحك تارة ويبكي تارة أخرى يعني حسب موقفه الشخصي ومشاعره بتلك اللحظة دون الالتزام أحيانا بالحياد بطرح الأسئلة بل هو من يقرر أنصار أحد ضيوفه على الضيف الآخر، وهناك من المذيعين من يتقصد التحدث باللهجة المحلية متناسيا أننا في محطة فضائية تبث للكرة الأرضية وليس لبلد معين، وهناك من يحاول بشتى الطرق التملق للإدارة عن طريق ردود أفعاله وأسئلته. وأتذكر أن هناك من المقدمين من بارك لضيفه سقوط النظام في العراق وفي مصر وغيرها من الأحداث التي على مقدم النشرة أن لا يبرز رأيه إطلاقا ولا يتبنى أي موقف شخصي، لأنه استفزاز للمتلقي بصورة مباشرة وعدم حرفية. وهناك مقدمة برنامج مسائي يومي على محطة إخبارية تقف بتوجهها مع معارضة دولة شقيقة وتأخذ موقفا حادا من الضيف الموالي لحكومته لدرجة مهاجمته واتهامه بالكذب وبنهاية البرنامج تبتسم مع الضيف المعارض غير آخذه بنظر الاعتبار ملايين المشاهدين ببقاع الأرض ومن المغتربين الذين يبحثون ويتحرون الحقيقة ويريدون الصدق، وهذا ليس من مصلحة القناة إطلاقا لا يجب الكيل بمكيالين في الإعلام.
إنها (نشرة أخبار وليست أغنية عاطفية، العواطف ليس لها مكان هنا). وفي الكفة الأخرى فهناك من احترم المشاهد والتزم الحياد ووقف عادلا مفكرا متحريا متحدثا بالصدق مستقرئا للأحداث موصلا الحقيقة على الأرض كما تجري وحلل بطريقة منطقية، وهؤلاء هم قلة قليلة من مقدمات ومقدمي النشرات الإعلاميين والصحفيين وسيذكرهم التاريخ الصحفي والإعلامي وسيعلقون بذاكرة المتلقي. والمشاهد العربي ذكي جدا ويستطيع التحليل بمجرد المشاهدة والمتابعة. طبعا يجب الإشارة هنا إلى أن مقدم النشرة غير مسؤول عن تحرير الأخبار لكنه مسؤول عن طرح الأسئلة، طبعا بعض المشاهدين لا يعرف بهذه الأمور التقنية ويصب جام غضبه على المذيع المسكين'.
*في رمضان الماضي كان لنا لقاء، وأنت إعلامية شابة، هل كنت تتوقعين من الشباب ما قاموا به من ثورات؟
*'الثورة والاحتجاج والتظاهر والتعددية والاختلاف هو أمر صحي وهي ظاهرة جديدة على شعوبنا العربية وغير متوقعة ولا أرى بأسا فيها فهي تحصل في دول الغرب دائما. عندما كنت في إيطاليا كانت هناك احتجاجات ومطالبة بالحقوق شبه يومية، يبقى هنا كيفية التعامل معها. هناك في الغرب تأتي الاستجابة سريعة وحازمة لتلك المطالب الحقيقية ويكون هناك حوار مباشر، أما عندنا فالحلول تأخذ وقتا طويلا، وأمام تلك الاحتجاجات والمطالب المشروعة لا بد أن تأتي الحلول والإصلاحات سريعا، الإصلاح يجب أن يأتي حتى قبل المطالبة به'.
*كان لك حديث في شهر رمضان الماضي عن ازدحام الشهر بالمسلسلات ماذا عن هذا العام؟
*'الإنتاج الدرامي الفني هذا العام أقل عن العام السابق بسبب الأوضاع التي تعيشها المنطقة،
وأحيانا ألحظ إعلانات لبعض المسلسلات في الفضائيات وعلى النت، وقد شد انتباهي عمل تاريخي أثار جدلا واسعا حتى أثناء تصويره وسيعرض على عدة محطات، وهو من أكبر النتاجات العربية لحد الآن وبطولة أفضل النجوم العرب وهو (معاوية والحسن والحسين) وبالتأكيد سأتابعه وأرجو أن يتحرى الصدق ولا يثير حفيظة بعض الأطراف'.
وبالنهاية أتمنى لك وللجمهور العزيز ولصحيفتكم الموقرة كل المحبة والتميز
والتوفيق، ورمضان كريم.. أعاده الله عليكم وعلينا بكل الخير والبركة.