عبدالوهاب بدرخان
في وقت تحرز المعارضة الليبية تقدماً على الأرض، تتعاظم المخاوف على ثورتها. تتسع مساحة سيطرتها وتقترب أكثر فأكثر من تطويق العاصمة طرابلس حيث يتحصّن الطاغية، لكن يستمر البحث في الخارج عن laquo;حل سياسيraquo;. يزداد بإضطراد عدد الدول التي تقطع آخر صلاتها مع النظام لتعترف بـ laquo;المجلس الوطني الانتقاليraquo; فيما تتكاثف الشكوك في مرجعيته القيادية حتى داخل معاقله الرئيسة وفي امكان الاعتماد عليه للإمساك بالوضع غداة الانهيار المحتمل للنظام في زمن يُفترض أنه لم يعد بعيداً. وجاء مقتل القائد العسكري للثوار اللواء عبدالفتاح يونس ليفتح فصلاً آخر من تلك الشكوك، اذ كشف واقع وجود جماعات تعمل لحسابها وأجندتها الخاصين، وإلا لما اغتيل يونس ورفيقاه بالاستسهال والسهولة هذين على أيدي من ينبغي أن يكونوا رفاق سلاح. فهؤلاء كُلّفوا، على ما قيل، وعلى رغم ما كان معروفاً من عدائيتهم تجاهه، بإحضاره من جبهة البريقة الى بنغازي للتحقيق معه، لكنهم كانوا قد حاكموه وحكموا عليه ثم أرسلوا اليه احدى laquo;فرق الموتraquo; لإعدامه.
قد تكون الاتهامات صحيحة، وربما كان اللواء يونس على اتصال بنظام طرابلس أو التقى مستشار سيف الاسلام القذافي في الخارج بعلم laquo;الناتوraquo;، إلا أنه لم يكن يعمل في الخفاء أو منفرداً، بل بتنسيق كامل مع حملة laquo;الناتوraquo; التي تريد للحرب ان تنتهي اليوم قبل الغد، وفي إمكانها أن تكتشف بسهولة اذا كان تعاونه محترفاً أو مشتبهاً به. لكن الرجل الذي انشق باكراً مع قبيلته، العبيدات، وانضمّا الى الثورة، كان يستحق مصيراً غير هذا. فالأمر لا يتعلق عملياً بشخصه وإنما بالفكرة التي يريد laquo;الثوارraquo; أن يروّجوها عن laquo;عدالتـraquo;thinsp;هم. فما شأن ما يسمى laquo;كتيبة أبو عبيدة بن الجراحraquo; بمحاسبته، ومن سمح لها بالتصرف على هذا النحو، ولحساب مَن تعمل، ومَن يستطيع مساءلتها وضبطها، وهل يجوز ترك مجموعة موتورة مهما كان التفهم لمعاناتها السابقة، منفلتة وتنفذ قوانينها أو فتاواها الخاصة في معزل عن أي سلطة مرجعية؟ اسئلة كثيرة وجد المجلس الانتقالي وسلطته نفسيهما في مواجهتها. وكان لافتاً أن يقول أحد قادة المعارضة بعدما طلب عدم ذكر اسمه انه لا يعتقد أن التحقيق في الاغتيال سيقود الى شيء، ثم أضاف: laquo;لا يمكنهم المساس بالإسلاميينraquo;.
غداة الاغتيال، في معزل عن الاتهامات والدوافع، أصبحت هناك نظرة أخرى الى واقع المعارضة و laquo;المجلس الانتقاليraquo; ومكوناتهما. وفي الغرب، الذي يعولان عليه الآن، سجّلت عودة الى التساؤل: اذا كنا نعرف من أجل ماذا نقاتل (اطاحة القذافي)، فالأحرى أن نعرف من أجل مَن. قبيل الاغتيال كانت بريطانيا اعترفت بـ laquo;المجلس الانتقاليraquo; وسلمته السفارة الليبية في لندن، ويوم الاغتيال كان السناتور الأميركي الجمهوري جون ماكين يثير مسألة laquo;انتهاكات لحقوق الانسانraquo; يرتكبها بعض مقاتلي المعارضة، محذراً من أنها تجازف بخسارة الدعم الأميركي. ذلك أن رصد ممارسات هؤلاء المقاتلين ترك انطباعات سيئة لدى المراقبين، فالانتهاكات تتم إما بدافع انتقامي سافر أو لعدم الخبرة والتدرب أو بسبب الفلتان والاحتكام الى laquo;فتاوىraquo;. ويمكن القول إنه أصبح هناك الآن ما يشبه الخريطة للتيارات التي تعمل تحت عباءة laquo;الثورةraquo;، وتبدو الوجوه المعتدلة والمحترمة، التي تظهر في الإعلام وتجوب العالم سعياً الى الاعتراف بشرعية laquo;المجلسraquo; أو الى مساعدات من كل نوع، كأنها أقلية تُركت لها الواجهة لتعطي صورة طيبة ومقبولة للثورة ولـ laquo;النظامraquo; الذي سينبثق منها، فيما تُرك الشارع للمجموعات الاسلامية.
الاسلاميون؟ نعم. لكن، أي اسلاميين ولأي اسلام يدعون ويعملون. تلك هي المتاهة الموحشة التي تخلفها الأنظمة المتهاوية بعدما استهلكت عقوداً وهي توهم العالم بأنها laquo;علمانيةraquo; أو laquo;غير دينيةraquo; تمنع القوى الظلامية - إلا أنها واقعياً تمنع أي قوى أخرى ndash; من مقاربة السياسة أو أيٍ من الشؤون العامة. وعندما حانت اللحظة التاريخية أخيراً، تأهب هؤلاء ليكونوا ورثة جلاّديهم السابقين، فالثورات تعترف بوجودهم في الساحة السياسية وترحّب بهم ترحيبها بالجميع من دون استثناء. وليس معروفاً اذا كانوا يبادلون الآخرين مثل هذا الاعتراف. بل الأهم أنهم قد لا يشاطرون شركاءهم مفهوماً موحداً لنموذج الحكم المدني الديموقراطي المنتخب والقائم على المؤسسات. فالليبيون عاشوا المعاناة ذاتها من الاستبداد، إلا أنهم لم يستخلصوا منها الدروس نفسها.
لذلك تبدو الثورة الليبية الآن في خطر. فالانقسامات والتباينات السياسية، معطوفة على التمايزات القبلية، باتت تهدد نسيجها ومشروعها، بل فاقمت المخاطر التي يشكلها القذافي وبقايا اجهزته. وجاء اغتيال اللواء يونس ليسلط الضوء على خلافات ظلت حتى الآن مكبوتة. فليس فقط أن قبيلته بالغة الغضب، بل انها لن تسامح القتلة المعروفين وقبائلهم. وليس فقط أن laquo;القضاء الانتقاليraquo; تعامل بخفة مع قائد عسكري وعمد تقريباً الى تسليمه الى قتلته، بل إن الأطراف الاسلامية استغلت الاتهامات الموجهة اليه سواء لـ laquo;شرعنةraquo; الثأر منه أو لـ laquo;بيعraquo; جثته الى جهاتها المرجعية ومنها نظام طرابلس نفسه. وليس فقط أن قيادة laquo;المجلس الانتقاليraquo; اختارت اعلان laquo;وفاتهraquo; بدل laquo;مقتلهraquo;، بل إن الاطراف غير الاسلامية فيه اعترضت بشدة على تجهيل الفاعل والتستر على الجريمة والمجرمين على رغم ارتياب هذه الاطراف بشخص يونس وتصرفاته، اذ انها طمحت الى تعامل قضائي سويّ معه والى شفافية في اعلان الحقائق، وإلا فإن التكتم يكرّس laquo;الخوف من الاسلاميينraquo; في ظل الثورة.
يخشى أن يكون laquo;المجلس الانتقاليraquo; قد أصبح فعلياً بين نارين: النظام والاسلاميين. ولعل هذا ما يشجع الدول الداعمة له على عدم إقفال الأبواب أمام laquo;حل سياسيraquo; بين المجلس وأطراف من النظام، لأن المتفق عليه أن القذافي لم يعد جزءاً من المرحلة المقبلة، ولا حتى عائلته كعائلة تتوارث الحكم. أما انهيار النظام وشيوع حل فوضى فهذه هي الوصفة التي يتطلع اليها الاسلاميون لإقامة دولتهم أو laquo;إمارتـraquo;thinsp;هم النفطية على تخوم أوروبا. وكلما طالت الأزمة، أظهر النظام أن لديه أوراقاً يلعبها لبثّ الانقسامات من خلال تواصله الذي لم ينقطع مع مختلف القبائل أو من خلال العروض والصفقات التي يطرحها على الاطراف الخارجية وأيضاً الداخلية بمن فيها الاسلاميون.
* كاتب وصحافي لبناني
التعليقات