أحمد عيسى

ما إن أعلن النائب محمد هايف الاثنين الماضي رغبته في تعديل المادة الثانية من الدستور حتى انفرجت أسارير زملائه النواب وأيدوه، معتبرين ذلك أمراً لا مناص من تطبيقه انتصاراً للدين. ولم يمض أسبوع على دعوة النائب هايف حتى قدم لنا أحد أوجه الدولة الدينية التي دعا لإقامتها بتعديل الدستور، حينما طالب يوم الجمعة الماضي باستفتاء العلماء لإهدار دم السفير السوري لدى البلاد، فتنكر له زملاؤه الذين سبق أن أيدوه، وتبرؤوا مما قاله لأن ldquo;الكويت دولة قانونrdquo; دون أن نعرف كيف يؤيدون تحويل البلد إلى دولة دينية يوم الاثنين ثم يتسترون بكونها دولة قانون يوم الجمعة.
النائب هايف لم ينف ما قاله، بل زاده بأن استفتى وزير الأوقاف حول حكم الشرع بإقامة علاقات مع سورية وحكم إيواء سفيرها بالكويت، خالطاً الشرعي بالسياسي ومقحماً الحكومة طرفا بموضوع تحاول جاهدة أن تتخذ فيه موقفا محايدا لاعتبارات ذات صلة بسياسة الكويت الخارجية، ومضيفاً طلبه الاستفتاء إلى طلباته الأخرى السابقة ومنها فتوى حول مقترح شراء مديونيات المواطنين، وتحويل الرقية الشرعية إلى مهنة، وحكم الزي الشرعي للنائبات، وهذه الفتوى الأخيرة صدرت بإلزام ارتداء النائبات للحجاب إلا أن المحكمة الدستورية سرعان ما أبطلتها بحكمها الصادر في أكتوبر 2009. وانتهت المحكمة الدستورية إلى أن ldquo;الدستور الكويتي لم يجعل الشريعة الإسلامية (بمعنى الفقه الإسلامي) المصدر الوحيد للتشريع، أو يمنع المشرع من الأخذ من مصادر أخرى نزولاً على أحوال الناس وشؤون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعا، كما كفل الدستور الحرية الشخصية، وأطلق حرية الاعتقاد، لأنها ما دامت في نطاق ldquo;الاعتقادrdquo; أي ldquo;السرائرrdquo; فأمرها إلى الله، ولم يُجز التمييز بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين أو الجنس hellip; والحاصل أيضا أن أحكام الشريعة الإسلامية لا تكون لها قوة إلزام القواعد القانونية إلا إذا تدخل المشرع وقننها، وليس لها قوة النفاذ الذاتي والمباشر، وإنما يتعين أن يتم إفراغها في نصوص تشريعية محددة، ومضمون تشريعي محدد يمكن أن يلتزم به كل من المخاطبين بأحكامه والقائمين على تنفيذه وتطبيقهrdquo; حكم المحكمة الدستورية 18/10/2009.
ورغم أن النائب محمد هايف أرجع رغبته بتعديل الدستور إلى مضي نصف قرن دون الاستفادة من الرخصة الدستورية التي تتيح العودة إلى أحكام الشريعة لم تستعمل جذريا حتى الآن وأن مقترحه يقضي بأنه ldquo;لا يؤخذ في التشريع من مصدر غير الشريعة الغراء إلا في الأمور التي لم يرد حكم شرعي في شأنها، ومن ثم يبطل كل نص في القوانين أو اللوائح يخالف أحكام الشريعة الإسلاميةrdquo;، وجاء في المادة الثانية من المقترح ما نصه ldquo;تعديل جميع التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنواتrdquo;. لا أعلم كيف اعتبر النائب محمد هايف أن الكويت لم تأخذ بما أسماه الرخصة الدستورية، وغاب عنه أن الكويت منذ شهدت تحالف السلطة مع التيار الديني في نهايات سبعينيات القرن الماضي، قتلت روح الدستور واندفعت ناحية ldquo;تديين الدولةrdquo;، فأصبح لدينا مؤسسات مصرفية ومالية إسلامية تميز بين موظفيها باسم الدين، وجمعيات نفع عام دينية تجمع الأموال دون أن تحدد أوجه صرفها، وأصبح لدينا قانون يفرض قسراً جباية الزكاة من الشركات المدرجة بسوق الكويت للأوراق المالية، ومُنع غير المسلمين من الحصول على الجنسية الكويتية بالقانون، وفُرض فصل الاختلاط على طلبة الجامعة لأسباب دينية، ثم جرّم نواب التيار الديني فئة المتشبهين بالجنس الآخر ومعهم من يتبادلون رسائل عبر البلوتوث، وفرضوا علينا 13 ضابطاً لإقامة أي حفل غنائي، ومنعوا تداول الكتب وإقامة الخيام الرمضانية، وأخيراً أقحموا الشريعة الإسلامية في قانون الخصخصة، وهذا غيض من فيض، لكنه بعد كل هذا يأتي ويقول إن الكويت لم تأخذ بتلك الرخصة الدستورية، ما يجعلني أتساءل إن كان هذا حالنا ونحن لم نأخذ بها، فكيف سيكون حالنا إن أخذنا بها؟! إن جميع المعطيات السياسية والتاريخية تبين أن إقامة دولة بناء على أساس ديني لا يعدو كونه وهماً غير قابل للتطبيق، بدليل أن الدول التي قامت على أسس دينية سرعان ما اصطدمت بواقع العالم الحديث، ما يبين أن الدين وحده ليس كافياً لقيام دولة حديثة، ولكم بسقوط الدولة العثمانية سليلة دولة الخلافة الإسلامية خير مثال.
على الهامش: رحم الله أحمد السقاف وأحمد البغدادي وسامي المنيس وفهد العسكر فجميعهم من رواد التنوير بالكويت وصادف أن رحلوا خلال هذا الشهر الحزين كل بحسب ميعاده.