محمد الأشهب


لم يدر في خلد العقيد الليبي معمر القذافي، وهو يوقع على المعاهدة التأسيسية للاتحاد المغاربي في مراكش عام 1989 أن ذلك اليوم 17 شباط (فبراير) سيكون مرادفاً لانبثاق حركة شعبية تطيح نظامه إلى الأبد.

لا رابط بين الموعدين، إلا الصدف التي يكون لها مفعولها في كتابة التاريخ، إذ يعجز الذين نصبوا أنفسهم لصنعه عن إدراك مكره وتناقضاته. والأكيد أن 17 شباط الأول الذي أرخ لميلاد الاتحاد المغاربي كان في وسعه إلغاء ما بعده من تداعيات، لو أن الاتحاد المغاربي تحول إلى حقيقة تمشي على الأرض وتنبعث من عمق تطلعات شعوب المنطقة في الحرية والكرامة والتقدم.

غير أنه لأكثر من سبب يطاول مسار التجربة شاءت التطورات أن يكون العقيد القذافي آخر شهود ميلاد الاتحاد المغاربي. فقد اضطر الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد إلى استقالة استنسخت إقالته لحفظ ماء الوجه، كونه تردد في حسم ولائه الموزع بين الجيش وصناديق الاقتراع.

كذلك كان حظ الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد الطايع، فقد أطاح به انقلاب عسكري في صيف 2005 قاده عسكريون من داخل القصر الجمهوري. غير أن سقطة رفيقهم الثالث زين العابدين بن علي كانت مغايرة في الأسباب والمعطيات. وأرخت لبداية انتفاضات شعبية لا أحد يعرف مداها. وفي واقع الأمر فإن القذافي حين انبرى يدافع عن الرئيس التونسي laquo;الزينraquo; على حد تعبيره، إنما كان يدافع عن نفسه، قبل أن يحشر مثل لحمة ساندويتش بين دفتي تونس ومصر.

باستثناء الملك الراحل الحسن الثاني الذي غيبه الموت، من دون أن يشهد انبعاث زمن الثورات العاصفة، يلتقي القادة المغاربيون الذين كانوا شهوداً على ميلاد الاتحاد المغاربي في أنهم ينتسبون جميعاً إلى المؤسسة العسكرية، وليس صدفة حتى الآن أن القادة الذين خلعوا عن كراسي الحكم هم أيضا عسكريون جاؤوا على ظهر الدبابات، فيما حسني مبارك أفلت من حادث المنصة الشهير.

قد لا تعني هذه الخصائص أكثر من انهيار فرضية أن التغيير الذي كان يلوح به العسكريون العرب، وهم يدبجون بيانات الانقلابات الأولى، انتهى إلى تكريس واقع مرفوض بكل المعايير، لم يترك للشعوب سوى أن تجرب حظوظها في قيادة التغيير الذي ظل غائباً. وما لم يستوعبه العقيد القذافي أن انتفاضة الليبيين ضده ليست موجهة ضد فساد النظام فقط، ولكنها تطاول الاستثناء الذي أراد أن يفرضه، عبر نظريات وميولات ونزوات، فهو لم يكتفِ ببسط القبضة الحديدية الملونة بشعارات الكتاب الأخضر، بل تعداها في اتجاه فرض طبخة خارج الطبيعة صاغها عبر توصيفات الجماهيرية الليبية، ليتبين لاحقاً أن لا وجود لـ laquo;جماهيريةraquo;خارج إرادة الشعب الذي يتوق للحرية والكرامة والانعتاق.

فلا الشعب المسلح ولا اللجان الشعبية ولا شعارات laquo;من تحزب خانraquo; استطاعت أن تقيه ضربات يوم الحساب.

كل ذلك كان وهماً لم يغادر ثكنة باب العزيزية، وإنها لمفارقة أن يتمسك العقيد الهارب من شعبه ومن العدالة بوهم زحف لا يحدث إلا أثناء الأحلام المزعجة. في الأيام الأولى لاندلاع الانتفاضة، ردد العقيد مقولات عن قدوم بن لادن وأيمن الظواهري، وغاب عنه أنه سيمارس الهروب نفسه من مخبأ لآخر. فإلى أين المفر؟

لعبة الهروب لدى العقيد ليست جديدة، فقد كان يلجأ إليها في كل مرة يضيق عليه الخناق. أليس هو من قال إنه سيصبغ وجهه باللون الأسود ليصبح أفريقياً، في إشارة إلى الخلاص من الانتساب العربي والمغاربي لبلاده، وكأن الهوية مجرد ألوان وماكياج. أليس هو من نصب نفسه قائداً أو حكيماً ومنظراً كي لا يتحمل مسؤولية رئاسة الدولة، فيما كافة القرارات تصدر بتوقيعه، من دون استشارة أحد. أليس هو من أمر بتعويض ضحايا لوكربي من خزينة الشعب، بعد أن أنكر لسنوات طويلة أي ضلوع لنظامه في تلك العملية الإرهابية المدانة؟

الآن يهرب القذافي من نفسه وتجربته بعد ضياع المزيد من الفرص التي طرقت أبواب ليبيا، بهدف تحقيق قدر بسيط من الإدماج في النظام العالمي. مجرد دولة صغيرة وعادية كان يكفيها أن تستجيب لرغبات شارع يرغب أن يكون له المكان الفسيح الذي يرتضيه تحت الشمس.

17 شباط 1989 كان عنوان فرصة بديلة، ليس من أجل ليبيا فقط، ولكن لكل دول المنطقة المغاربية برمتها. ومع أن هذا الفضاء توافرت له إمكانات وافرة، من وحدة اللغة والدين والمصير إلى مزايا التكتل الاقتصادي الذي يحقق التكامل، مروراً برهانات الانفتاح ودمقرطة الحياة والمجتمع. فان ضياعها أو إرجاء التعاطي معها وفق منظور المسؤولية التاريخية، دفع إلى استنساخ الموعد، فكان 17 شباط الليبي الذي قضّ مضاجع القذافي. فمن يقدم على تفكيك ألغاز لعبة الأرقام والمواعيد غير التاريخ الذي يمهل ولا يهمل؟