أحمد يوسف أحمد

يبدو لكل مراقب أن الصراع العربي- الإسرائيلي مقبل على مرحلة جديدة نعيش إرهاصاتها ولا نتبين ملامحها حتى الآن، ومبعث الحديث عن هذه المرحلة أمران أحدهما عام يتعلق بما يجري في الوطن العربي ككل، والثاني خاص يرتبط بتطورات القضية الفلسطينية على الصعيد الثنائي بين الفلسطينيين وإسرائيل. أما الأمر الأول فهو معروف، ذلك أن ما شهده الوطن العربي من ثورات داخلية قد طال أهم دولتين عربيتين مجاورتين لإسرائيل وهما مصر وسوريا. في مصر بدأت مسيرة التغيير بالفعل بعد إسقاط رأس النظام السابق، وفي سوريا ما زال الشعب يحاول فرض مطالب التغيير على النظام القائم. وعلى رغم أنه لا يتوقع في المدى القصير وربما حتى المتوسط أن تحدث تغييرات جذرية في السياسة المصرية أو السورية تجاه إسرائيل إلا أن وصول نخب جديدة إلى الحكم بأسلوب ديمقراطي، والنجاح في عملية إعادة البناء الداخلي سيكون لهما من دون شك مردود مختلف نوعيّاً على معادلات الصراع في المنطقة.

أما الأمر الثاني الخاص بتطورات عملية التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية فيشير إلى وصولها إلى طريق مسدود بسبب التعنت الإسرائيلي، والإصرار على استمرار عمليات الاستيطان. وإذا كانت الرئاسة الحالية للسلطة الفلسطينية لا تؤمن بجدوى المقاومة المسلحة، ولا ترى مخرجاً من المعضلة الراهنة إلا باتباع الوسائل السلمية، فقد قررت أن تتجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر القادم لطلب الاعتراف بدولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عدوان 1967، والأمل في أن يعزز مجلس الأمن النجاح المتوقع لهذه الخطوة بالموافقة على عضوية كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهو أمر لا ينتظر حدوثه بسبب quot;الفيتوquot; الأميركي.

وعلى رغم أن التحرك الفلسطيني في الجمعية العامة لن يأتي سوى بنتائج رمزية، بمعنى أن السيطرة الفعلية على الأراضي الفلسطينية ستبقى لإسرائيل، إلا أنه سيعيد تكييف الصراع بين الطرفين إلى النقطة التي كانت عليها قبل توقيع اتفاقية أوسلو 1993، مع فارق مهم وهو أن إسرائيل ستتحول من دولة تدعي أنها حررت الضفة وغزة من الاحتلال العربي، باعتبار أن أراضيهما جزء لا يتجزأ من إقليم إسرائيل، إلى دولة تحتل أراضي دولة أخرى، وتغتصب سيادتها وسلطتها على إقليمها، وهذا هو بالتأكيد السبب الذي يفسر الانزعاج الإسرائيلي من الخطوة الفلسطينية القادمة، والجهد الدبلوماسي الفائق الذي تقوم به إسرائيل لمنع موافقة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على نشأة هذه الدولة، وكذلك الإدارة الأميركية التي تلوح بكل صنوف الضغط على السلطة الفلسطينية إذا مضت قدماً في مسعاها.

وفي السياق السابق هددت الحكومة الإسرائيلية بأنها ستلغي اتفاقية أوسلو إن أصرت الرئاسة الفلسطينية على مواصلة هذه الخطوة، وهو تهديد يثير الضحك، لأن حكومة إسرائيل تتصور أن تنفيذه سيلحق ضرراً بالغاً بالفلسطينيين، بينما واقع الأمر أن المستفيد الأول من اتفاقية أوسلو هو إسرائيل وليس الفلسطينيين، ولنتذكر بعض أساسيات هذه الاتفاقية التي تضمنت اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني في مقابل اعتراف المنظمة بدولة إسرائيل. وعلى رغم أهمية التنازل الذي قدمته إسرائيل للفلسطينيين باعترافها بهم كشعب، وإسقاط صفة الإرهاب عن منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه تنازل غير متوازن على الإطلاق مع ما قدمه المفاوض الفلسطيني من اعتراف بدولة إسرائيل المغتصبة أصلاً للأراضي الفلسطينية. ومن ناحية أخرى فإن المنطق العام الذي بنيت عليه الاتفاقية هو انقسام عملية التسوية إلى مرحلتين الأولى انتقالية ومدتها خمس سنوات، والثانية تتم فيها التسوية النهائية وتبدأ التفاوض حول هذه التسوية أثناء المرحلة الانتقالية. وأهم معالم المرحلة الأولى أنها شهدت إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وليس الانسحاب منها، على أن تتدخل في أي لحظة شاءت في هذه الأراضي، وكذلك شهدت المرحلة الأولى أيضاً تكوين السلطة الفلسطينية بانتخاب رئيس لها ومجلس تشريعي وحكومة تنبثق من الأغلبية النيابية في هذا المجلس.

أما المرحلة الثانية فكانت تتضمن تسوية قضايا الوضع النهائي، وتبدأ بتاريخ البدء في تنفيذ الاتفاقية -وليس توقيعها- أي في مايو 1994. وعندما شعر ياسر عرفات بأن المرحلة النهائية لا تسير وفق الوتيرة المتوقعة هدد بأنه سيعلن دولة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967، وكما يحدث الآن فإن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قد أصابها الارتباك من احتمال تنفيذ هذه الخطوة، فمارست ضغوطاً هائلة على عرفات كي لا يقدم على خطوته هذه مع وعود زائفة بتسريع عملية التسوية وزيادة المساعدات، وقطعها بالمقابل إن هو أصر على إعلان الدولة، وقد استجاب عرفات لهذه الضغوط، ولم يوضع أي وعد من الوعود التي قدمت له موضع التنفيذ.

واللافت هنا أن التغير النوعي الوحيد الذي حدث في ظل اتفاقية أوسلو صنعه الفلسطينيون، ألا وهو إجبار إسرائيل بسبب عمليات المقاومة في غزة على إخلاء القطاع بالكامل في 2005، بل وتفكيك مستوطناته في خطوة غير مسبوقة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وبعيداً عن هذا كله كان واضحاً أن حركة التحرير الفلسطينية قد وقعت في براثن فكرة إنشاء quot;سلطة في ظل الاحتلالquot;، فتم أولاً تحييد مقاومة quot;فتحquot; باعتبارها الطرف الفاعل في معادلة المقاومة حتى ذلك الوقت، وتحول مقاتلو quot;فتحquot; إلى رجال شرطة مهمتهم الحفاظ على استقرار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخسر النضال الفلسطيني جهدهم المقاوم، ناهيك عن انزلاق عدد من قادة quot;فتحquot; إلى تحقيق الثروات الطائلة وبناء القصور الفارهة لسكناهم. وفي هذا الإطار برز نجم quot;حماسquot; في سماء المقاومة، وازدادت شعبيتها حتى تمكنت من كسب الانتخابات التشريعية عام 2006، وشكلت الحكومة إلى أن وقع الصدام الدموي في 2007 بينها وبين عناصر quot;فتحquot; في غزة نتيجة إصرار السلطة القديمة على حرمان quot;حماسquot; من السلطة الفعلية في المواقع الحساسة.

وكانت هذه ثاني خسارة استراتيجية للفلسطينيين من جراء أوسلو بعد تحييد دور quot;فتحquot; المقاوم، ألا وهي الصدام العنيف بين أهم فصيلي مقاومة في الأراضي الفلسطينية، وهو صدام أدى إلى قطيعة ما زال النضال الفلسطيني غير قادر على تجاوزها على رغم تعدد اتفاقيات المصالحة. ومع أن quot;حماسquot; فازت في الانتخابات التشريعية عام 2006 استناداً إلى برنامج quot;مقاومquot; فإنها اضطرت لاحقاً إلى تهدئة مع إسرائيل لا تختلف من حيث نتائجها عن تحييد quot;فتحquot; في عملية المقاومة، وهو ما يمثل الخسارة الاستراتيجية الفلسطينية الثالثة من جراء اتفاقية أوسلو. والمؤسف أن المتأمل في أهم موضوعات الخلاف المستعصي بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot; سيجد أن مصدره اتفاقية أوسلو، بمعنى الخلاف حول قضايا متضمنة في هذه الاتفاقية.

ليتفضل رئيس حكومة إسرائيل إذن بإلغاء اتفاقية أوسلو، وسيجد نفسه بعدها مسؤولاً مسؤولية مباشرة بموجب القانون الدولي عن إدارة الأراضي الفلسطينية وفقاً لمبادئ قانون الاحتلال، وسيقدم بذلك خدمة جليلة للنضال الفلسطيني الذي سرعان ما ستتخلص فصائله بعد إلغاء الاتفاقية من خلافاتها البينية، وتعكف على إعادة بناء منظمة التحرير بما يعكس الخريطة السياسية الفلسطينية الراهنة، وكذلك على بلورة استراتيجية مشتركة للنضال الفلسطيني لابد منها إن كنا نريد لحلم استرداد الحقوق الفلسطينية أن يصبح حقيقة.