عبدالوهاب بدرخان

أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي، أمام العديد من quot;الوسطاءquot; الأمريكيين والأوروبيين، قلقاً خاصاً من إمكان لجوء الدولة الفلسطينية المرتقبة إلى المحكمة الجنائية الدولية لتقديم شكوى ضد الاستيطان باعتباره جريمة حرب، ولم يبن بنيامين نتنياهو قلقه هذا على ديماعوجيته المعروفة، أو لمجرد إضافة حجة لتشجيع الحلفاء الدوليين على مناهضة سعي الفلسطينيين إلى الاعتراف بدولتهم في الأمم المتحدة، بل لعله بني على دراسة قانونية أكدت للإسرائيليين ما كانوا يعرفونه مسبقاً، أي أن الاستيطان هو فعلاً جريمة، لأنه سرقة واضحة للأرض، ولأنه قتل لأي مشروع سلام في المستقبل، وبالتالي فإنه في الأحوال العادية يشكل استفزازاً حربياً لو كانت موازين القوى تسمح للطرفين معاً بالذهاب إلى الحرب، وحتى في غياب التوازن في القوى يعتبر الاستيطان استمراراً للاستيلاء على أرض الغير بالقوة، وهذا يناقض أحد المبادئ الأساسية التي قامت الأمم المتحدة من أجلها وعلى أساسها.
خلال الشهور والأسابيع الماضية خاضت الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل واحدة من أوسع الحملات الدبلوماسية للحيلولة دون أن يطلب الفلسطينيون اعترافاً بدولتهم، وإذا كان باراك أوباما أعلن منذ خطاب الربيع العربي في 19 مايو الماضي أن واشنطن ستستخدم quot;الفيتوquot; ضد هذه الدولة، فإن الكلمة التي كانت ولا تزال غائبة عن أي نقاش بين الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين هي quot;الاستيطانquot;، وقد أسهب هؤلاء جميعا في الحديث عن quot;العودة إلى المفاوضاتquot; واستئنافها ورغم ان اسرائيل رغبت في تعطيل الخطوة الفلسطينية إلا أنها لم تبد أي استعداد لمساعدة quot;السعاةquot; الغربيين، لم يكن لديها أي مبادرة أو تنازل جوهري تقدمه، وإنما اعتمدت على ضغوط الأصدقاء وتهديداتهم للفلسطينيين، فضلا عن تهديدات نتنياهو وليبرمان وسواهما. ولم يتوقف الأصدقاء لمناقشة الاسرائيليين في الخيارات التي اتخذوها وأدت إلى تعطيل المفاوضات وأهمها طبعا مواصلة مشاريع الاستيطان والإصرار عليها.
تعاملت إدارة أوباما مع الفلسطينيين على أنهم هم الذين تسببوا بوقف المفاوضات أي كان عليهم أن يفاوضوا لاسترجاع أرضهم فيما يقوم الطرف الآخر بسرقتها وهو يفاوضهم، عملياً، سعت واشنطن إلى الفلسطينيين كي ينقذوها من فشلها في الضغط على نتنياهو ومن عجزها عن تطبيق المواقف المتقدمة التي أعلنها أوباما، سواء في خطاب جامعة القاهرة يونيو 2009 أو في مناسبات أخرى، قبل أن يتخلى عنها ثم ينساها، ولا يزال الجميع يذكر كلمات سوزان رايس مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، عندما رفعت يدها مستخدمة quot;الفيتوquot; ضد قرار يدين الاستيطان ويذكر بأنه عمل غير قانوني ويقوّض مساعي السلام، إذ قالت إن بلادها ترفض هذا القرار لكن موقفها هذا لا يعني انها غيّرت رأيها في الاستيطان إذ أنها لا تزال تعتبره غير شرعي ومناقضا لشروط السلام. كان هذا quot;الفيتوquot; أبلغ دليل على الارتباك الأمريكي، بل على دخول الدبلوماسية الأمريكية في حال يصعب فهمها إلا بمنهج التحليل النفسي لتحديد تعايش النقائض أو تنافرها في آن. غير أن هذا المنهج يبدو ضرورياً لمساعدة الأفراد، أما الدول ولا سيما الدولة العظمى الوحيدة فلا تستطيع الإفادة منه.
ومنذ أعلن الرئيس الفلسطيني أنه يعتزم مطالبة الأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية كان واضحا في شرح الأسباب والمبررات بل ذهب محمود عباس إلى أقصى الصراحة، فهو لا يستطيع ترك الشعب والقضية والسلطة تحت رحمة الانتظار وتحت رحمة المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية الذين جاؤوا إلى الحكم ببرنامج واضح لتعطيل المفاوضات أو جعلها وسيلة quot;شرعيةquot; لسلب المزيد من حقوق الفلسطينيين، راهن على أوباما، راهن على الهيئة الرباعية الدولية، راهن على المفاوضات وعلى نهجه السلمي، لكن كل هذه الرهانات خابت، ثم ان لديه انقساما مؤلما بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا تضيع إسرائيل فرصة للإمعان في تعميق هذا الانقسام، حتى ان دولا عربية أسقطت خلافاتها عليه، وإذ لاحت فرصة للمصالحة بعد سقوط النظام المصري السابق ما لبثت الأطراف الدولية أن تكالبت على لجمتها. وبين الضغوط والقيود الدولية والعربية والداخلية، لم تبق لعباس خيارات كثيرة (هذه الخطوة في اتجاه الأمم المتحدة قد تفهم على أنها هروب إلى الأمام، لكنها أولاً وأخيراً من الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين، إذ لم يعارضها العرب في العلن، وان كان أحد الأطراف امتعض منها وحاول في السر أن يحبطها، وحتى quot;حماسquot; التي كانت أبلغت بها قبل المصالحة انتظرت بدء العد العكسي لتحقيقها لتباشر حملة ضدها، وكأنها خشيت فقط أن تسجل السلطة الفلسطينية نقطة تقوي مكانتها على المستوى الدولي، وربما تقوي أيضا موقفها التفاوضي حول إجراءات تفعيل المصالحة.
بل أخذت quot;حماسquot; على السلطة أن ذهابها إلى الأمم المتحدة تكتيك هدفه العودة إلى المفاوضات مع الإسرائيليين، لكن محمود عباس حتى في خطابه بعد توقيع اتفاق المصالحة، شدد على أن استراتيجيته هي المفاوضات، أي أنه لا يعمد إلى خداع أحد، والأهم أن العرب أنفسهم لن يدعموا أي استراتيجية أخرى.
هذا الأسبوع لن يكون حاسماً في تاريخ القضية الفلسطينية، بل سيكون خاصا واستثنائيا، ستسمع دول العالم كافة أن الشعب الفلسطيني يريد إعلان دولته، ولم يعد مفيدا إجباره على الانتظار أو تركه بلا عنوان، وسترتكب الولايات المتحدة مجدداً أحد أخطائها التاريخية بتسميم مكرر لعلاقتها مع العرب حكومات وشعوبا، وبتشويه آخر لصورتها وهي تقف وراء إسرائيل المعزولة والمنبوذة، والمدانة دوليا بل سترتكب حكومات أوروبا، أو بعضها على الأقل، إساءة أخرى للعرب إذ تفضل تجاهل الرأي العام الأوروبي نفسه الذي أظهر أحد الاستطلاعات انه يؤيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
فهذه المواقف السلبية لن تنسى، حتى لو بذلت هذه الدولة وتلك كل جهد لإبداء تشجيعها لحراك quot;الربيع العربيquot;، إذ ان الخطوة الفلسطينية تأتي في سياق ذاك quot;الربيعquot; تماماً، ثم ان الواقفين في طريق quot;الدولةquot; لمنع ولادتها، هم أنفسهم العاجزون عن إقناع حليفهم الإسرائيلي بدخول مفاوضات حقيقية تهدف إلى صنع سلام حقيقي تتوقف معه سرقة الأرض ونهب ماضي الشعب الفلسطيني ومستقبله.