عمار علي حسن
كان الأزهر نائماً واستصرخناه ليستيقظ. كان تائهاً وبحثنا عنه طويلاً ليعود. كان مستكيناً في زاوية النسيان، فاتحاً ذراعيه لأي عابر وكأنه تكية طال زمانها واتسعت أبوابها فباتت مقصداً لكل الدراويش، بينما هجرها العلماء، إلا ما ندر.
كان الأزهر دوار شمس، أينما تسير السلطة يسير، إن اتجهت يميناً فهو معها، وإن سارت في الطريق المقابل أسرع الخطى ليواكبها. الأزهر مطبعة لإصدار بيانات رخيصة، تبرر الاستبداد، وتتواطأ في الفساد، وإن قيل له quot;أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائرquot; قال: صُمت أذني وكف بصري، فلا شيء يعنيني، ولا كلام يضنيني.
الأزهر كان صفراً على الشمال. قشة في مهب الريح. كان صرحاً من علم وأدب، من فقه وفكر، فهوى في جحيم السلطة، ونار المطامع العابرة، فركب ظهره عيال حفظوا سطوراً من الكتب الصفراء، وراحوا يرددونها كالببغاوات، رواية لا دراية، وحفظاً من غير فهم، وتبديداً لا تجديداً. وراح هؤلاء الحفظة يتيهون على الناس بصفحاتهم القديمة، ويشككون في الأزهر، ويقولون: خرج من التاريخ، بينما أتباعهم من صغار العقول والنفوس يقولون عنهم: هؤلاء هم العلماء.
أحد هؤلاء كان يعيش في قريتي، ذهب ذات مرة إلى القاهرة، حاملًا في جيبه مبلغاً جيداً من المال جمعه من quot;التجارة بالدينquot; وعاد مستبدلًا النقود بحمل بعير من الكتب القديمة. صنع لها دولاباً في بيته. حفظ الفهارس، وبعض سطور كان يزين بها خطبه الزاعقة الناعقة التي لا تغادر سقماً. وكان كلما قلت له الأزهر، قهقه حتى كاد يسقط على قفاه، وهو يشير إلى الدولاب، ويقول: أزهر، أي أزهر، هذا هو الأزهر، هنا في بيتي.
كان هذا الرجل كغيره من الذين استضعفوا الأزهر واستهانوا به، واستخفوا بمكانته، واستبدلوه بفقهاء البادية، الذين ترعى الريح في رؤوسهم، ويقولون ما لا يفعلون. باعوا الأزهر بحفنة من كلام مسجوع مرقوع، لا يستجيب لحاجة ولا يسد نقصاً. كلام لا ينتمي إلى زماننا، ولا يفيد ديننا العظيم، الصالح لكل زمان ومكان. كلام يتقدس به رجال من الزمن الغابر، وما لهم في الإسلام من قداسة.
كل هذا كان يتم بينما الأزهر يغط في سبات عميق، وشخيره يصل إلى أسماع أرباع الفقهاء، بل أثمانهم، فتجلجل ضحكاتهم في الصحاري المفتوحة على الغلظة والجلافة والغطرسة، أو في الوديان الخضر فتسقط لها الأزاهير والرياحين وتهرب الفراشات. ينحنون على الأرض فليتقطون أحجاراً وحصى يقذفون بها الأزهر، ولا تأخذهم به شفقة ولا رأفة، ولا يعملون فيه تلك النصيحة الغالية: ارحموا عزيز قوم ذل.
الآن الأزهر يحاول أن يستيقظ، يتمطى في سريره التاريخي ويجلس على مهل استعداداً للوقوف. فها هو يرمي بسهم في الجدل الدائر حول وضع قواعد البيت المصري الجديد، وها هو يسعى إلى أن يقطع الطريق على أدعياء الفقه وتجار الدين، وكأن شيخه، الفيلسوف الفقيه والفقيه الفيلسوف، يكفر عن سيئات انضمامه إلى quot;الحزب الوطنيquot; الفاسد البائد، والسلطة الغادرة الفاجرة، التي نهبت أموال الناس وقهرتهم سنين، وكأنه يريد أن يغسل يديه، ويطهر قلبه من رجس الصمت والسكوت على ما كان يجري، وكأنه يريد أن يمحي استئذانه ذات يوم للانصراف من الهيئة العليا للحزب الحاكم المستحكم بعد أن تم تعيين فضيلته شيخاً للأزهر، جامعاً وجامعة.
الآن يستيقظ الأزهر، وهذا كلام لا مجاملة فيه، فحين يشرف شاب من خيرة العلماء هو الدكتور أسامة الأزهر صاحب السفر الرائع quot;أسانيد المصريينquot; على سلسلة تخرج عن الأزهر وتستهدف الشباب وغيرهم ليقفوا على صحيح الدين، فهذا معناه أن هناك خطوة أزهرية في الطريق السليم. فقد جاءني قبل أيام الباحث النابه الأستاذ حسين الشطوري، ومعه بعض من مطبوعات هذه السلسلة، فراق لي منظرها ومخبرها، ورأيت فيها وسيلة مهمة ليمارس الأزهر دوره في دعوة الناس إلى العبادة ومكارم الأخلاق، من أجل روح ممتلئة بحب الله، ومعاملة متوافقة مع روح الإسلام ونهجه.
نريد الأزهر أن يؤدي دوره، وأن يحمل على أكتافه العبء الثقيل الذي نلقيه عليه، وأن يلبي طموحاتنا التي طالما راودتنا، ويحقق آمالنا التي داعبتنا طويلًا، في أن تكون في بلادنا مؤسسة دينية وسطية معتدلة، تجعل من التفكير المتواصل فريضة، ومن الاجتهاد الدائم فرض عين، ومن التجديد المستمر وسيلة مثلى لتحقيق ما يصبو إليه الناس في دينهم، وما يرجونه من عقيدتهم.
إن الأزهر لن يستعيد دوره إلا إذا استقل عن السلطة، وهذا الاستقلال لن يتم إلا بقانون جديد يلغي ذلك المعمول به الآن، والذي ألحقه بالسلطان، وجعله مطية لأهوائه ونزواته، إلا قليلاً. ولن يستعيد الأزهر دوره إلا إذا استحضر مصداقيته التي جرحت في العقود الأخيرة، فيثق به الناس، ويقصدونه في طلب العلم والمعرفة والفتوى. ولن يستعيد الأزهر دوره إلا إذا غيَّر الكثير من مناهج الدراسات الدينية، فجددها وربطها أكثر بعصرنا الذي نحيا فيه. ولن يستعيد الأزهر دوره إلا إذا أعطى كل ذي حق حقه من بين علمائه، فيرفع المجتهدين المجددين منهم، ويأخذ بيد التقليديين ويحثهم على الدراية قبل الرواية، ويفتح الأفق أمام الطلاب ليتزودوا من الآراء المستنيرة، والتصورات الحديثة المرتبطة بدراسة الدين، من كافة جوانبه، وليس فقط حبسه في كتب بشرية عتيقة، مكان الكثير منها المتحف إلى جانب الفأس البرونزية والنورج.
التعليقات