نسيم الخوري
الآن يحق لنا التساؤل، ولو انتظرنا شهراً إضافياً للمراقبين في سوريا: من هو بوتين؟ سؤال متوقع أن يشغل العناوين الأولى من صحف العالم . وقد تحل الإجابة عنه مجموعات من العقد والأسئلة المتناسخة التي طرحت وتطرح وستطرح في المنطقة العربية وتحديداً العقدة السورية التي تتأهب ملفاتها مجدداً نحو مجلس الأمن مشفوعةً بالكثير من المحاولات الإقليمية والدولية، ومشفوعةً أيضاً بالموقف الذي أعلنه مارك نيوف رئيس اللجنة الدولية في البرلمان الروسي عندما رَشَحَ من كلامه بداية نفاد الصبر الروسي، وهو موقف يصدر عن مسؤول يؤخذ عليه في روسيا، كما رشح، المساهمة في إخراجها من ليبيا في الأمس القريب، وهو موقف يتناقض مع مواقف لافروف ومن ورائه مواقف بوتين المعاندة في القرار الدولي في الشأن السوري . هل صحيح أن ثمّة صيغةً لقرار أممي متفاهم عليه دولياً منذ أسبوعين؟
لا نعرف بسبب ldquo;قصف الشاشاتrdquo; المتواصل، لكن: من هو بوتين؟
قبل الإجابة، ثمة لافتة عملاقة مرفوعة في وجوهنا جميعاً فوق مشهد الصراع على مستقبل سوريا تقول، إن سوريا هي الابن المدلّل لروسيّا مقابل ldquo;إسرائيلrdquo; الابنة المدلّلة والأبدية لأمريكا ولبلدان الغرب بشكلٍ عام . لكنّ هناك فرقاً أو إضافة بين سوريا وrdquo;إسرائيلrdquo; في هذه المعادلة الصعبة، هي صفة الابنة الأبدية التي تجعل من ldquo;إسرائيلrdquo; الذريّة التاريخية لهذا الغرب . ومع أنّ ldquo;إسرائيلrdquo; تتّخذ في المعادلة صفة الابنة أو الأنثى التي تنمّ عن ضعفٍ مزعوم وتهديد دائمٍ من محيطها الإسلامي والعربي لطالما ارتضته وغالت فيه استدراراً للحماية والعطف عليها من الغرب، فإنّ سوريا بالمقابل تمضي، كأنها وحيدة، في الاعتداد بذكورية ملحوظة تكاد تؤرّق وتحرج في إعلان فرادتها الكثير من الآخرين، مع العلم أن مسؤولين فيها يدركون تماماً أنّ الهجمة عليها ستتكثف عليها خلال الأشهر المقبلة، وستأخذ أشكالاً خطرة أبرزها التدويل وتجربة متضافرة من الضغوط الإقليمية والدولية والميدانية، إضافة إلى مضاعفة الضغوط الاقتصادية والنقدية تحديداً لتوليد حالةٍ من الذعر لدى المواطنين قد يولّد تأليبهم على الواقع . فالضغط النقدي بلغة الاقتصاد يوازي في أخطاره تملّك السوس من الخشب . فالمنشار يروح في الخشب بعمق ويسر، ولكنه قد يلتوي أو ينكسر إن حلّ في عقدةٍ مستعصية، وفي أحسن الحالات لا بدّ من حني الذراع تجنباً للانكسار أو لإيذاء النفس، إلاّ إذا كان هناك سوس ينام في العقدة .
وإذا كانت شعرة معاوية قد انقطعت أو كادت، في اجتماع وزراء الخارجية العرب للتباحث في شأن الوضع في سوريا، وخرج النقاش عن سياق مناقشة التقرير الإيجابي لرئيس بعثة المراقبين العرب في سوريا محمد الدابي إلى الحدود التي أعلنت فيها السعودية تتبعها بعض دول المجموعة العربية سحب المراقبين من دمشق، فإنّ هذه الأخيرة أعلنت مرتضية قبولها لسياسة الباب العربي الموصود الذي سمعت ضجّة إغلاقه في الأرجاء كافة، وهكذا أسقطت بشكلٍ مفاجئ ولافت محاولات التعريب التي مازال الكثير من العرب والمراقبين يراهنون على عدم انقطاعها، لكنّ الكلّ استمرّ يسأل: هل إنّ سوريا فعلاً هي الابن الأبدي لروسيّا؟
هنا لا نجد سوى الصمت أو الترقّب والانتظار لبوتين، وإن كان هناك من كلام هامس متوجّس، يرى أنّ روسيا هي الدولة الأولى في التاريخ التي سبقت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب عموماً في إعلان اعترافها بrdquo;دولة إسرائيلrdquo; . صحيح أن مفتاح مجلس الأمن اليوم في الموضوع السوري هو في الجيب الروسي ومعها الصين والكثير من الدول الأخرى، لكن الصحيح أيضاً أن من يتحكّم بمجمل ما يكتب أو يقال هو: هل ستُخْرِج روسيّا مفتاحها فتساير الإرادات الدولية والإقليمية المترددة والملحنة أصلاً في العقدة السورية؟ ولا بدّ من انتظار بوتين مجدداً وربّما طويلاً!
فمن هو بوتين؟
إجابتان عن هذا السؤال: الأولى قديمة تحمل صورة بوتين الأول الرئيس السابق والزعيم الاستخباراتي الذي نسج صورته المبهمة بالصمت وكبت النوايا، وهو لم يكن واضح المعالم بل كان متقلباً فيها لأنّه كان مسكوناً بمهمة التقرّب والتوازن من شبكة القوى الليبرالية واليسارية والنخب ومراكز النفوذ في الروسيا . ويُروى، في هذا المجال، أن الفنانين الروس الذين كانوا يتهافتون إلى رسمه كان يكابدون ويشتكون من عدم تمكنهم من التقاط ملامحه الزئبقية في فراغها ووهمها وعدمها، مقابل رحمتها ومحبتها وسلامها، وهي ملامح تتجاوز لوحة الموناليزا في ترددها بين الحزن والتردد والتوثب والفرح والثبات والتحسب في ابتسامتها الرقيقة . وما مكّن بوتين من الإمساك بسلطته المتحيرة بين غرب وشرق ldquo;أنه كان رئيساً لبلاده يتصرّف مثل عميل في أرض العدو، لا يعرف أحد نواياه الحقيقية، وما إذا كانت لديه نوايا أصلاًrdquo; .
لكن ثمة صورة ثانية، بناها بوتين من خلال تراجعه نحو رئاسة الوزراء والقعود خلف ظهر ميدفيديف الرئيس الروسي، وهي قد تشكّل صورة بوتين الثاني المنتظرة بملامح نقيّة وواضحة، والتي شاءت الظروف أن تبرز بعضها بوضوحٍ حتى الآن تعليقاً على المشهد السوري . وقد يكون أصدق تعبير عن هذه الصورة الثانية ما قاله المقدم التلفزيوني أليكسي بوشكوف عاصراً الصوت والتجربة الروسية عن عدم جدوى تعاونها مع أمريكا: ldquo;مازالت أمريكا تبيعنا الهواء، وهي تعتقد أن علينا شراء هذا الهواء، وأن ندفع ثمنه دعماً حقيقياً غير مشروط لأمريكا، لقد استعملت أمريكا العراق ساحة اختبار لقوتها على فرض الحلول العنيفة، وقلب الأنظمة التي لا تناسبها في البلدان الأخرى، وهو ما سيدفعها إلى الاستيلاء على سوريا وإيران والبلدان الأخرى في المنطقة من دون أي اعتبار لنا أو للأمم المتحدةrdquo; .
بين صورتي بوتين الأول وبوتين الثاني موجة عداء روسي لأمريكا، تعني أن موسكو ldquo;قد نأت بنفسها عن واشنطن بشكلٍ نهائي ومن دون أي قلق روحيrdquo;، لكننا لا ننسى أنّ حرارة العلاقات بين الدول تبقى مرهونة بحجم التقديمات والمصالح المتبادلة .
التعليقات