مفتاح شعيب

الأنباء القادمة من تونس لا تحمل مسرّة في مجملها، إذ بات المشهد السياسي أشبه بقنبلة اختزنت كثيراً من عوامل التفكك والصدام . أما المواطن الذي انتظر طويلاً على رصيف الصبر لتينع الثورة نخبة سياسية راشدة، اكتشف أخيراً سقوطه ضحية مغالطات انتخابية ووعود عشوائية ابتزت صوته ولعبت بمشاعره .

هذا الواقع المتوتر بشدة أفرز أزمة متعددة الأبعاد، فهذه الحكومة المؤلفة من ثلاثة أحزاب، هي ldquo;النهضةrdquo; الإسلامية وrdquo;المؤتمر من أجل الجمهوريةrdquo; وrdquo;التكتل من أجل العمل والحرياتrdquo; العلمانيان، لم يعد يجمعها شيء غير الاحتفاظ بغنائم المناصب . وتكشف الحرب الساخنة تارة والباردة أخرى بين رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وحكومة حمادي الجبالي أن العلاقة بينهما أقرب إلى الزيجة العرفية المرشحة لطلاق بائن من دون تراض . وذاك المجلس الوطني التأسيسي أصبح كحلبة السيرك تتفنن في فضائها أطراف المعارضة والموالاة في التلاسن والتنابذ والتنافخ بالانتساب إلى الثورة، بينما تتدنى لغة الخطاب إلى مستويات لا تمت بصلة إلى الديمقراطية أو الخطاب الثوري المفترض . وهناك في الإعلام فضاءات قاعدتها العريضة مفتوحة للصراخ والشتائم المتبادلة بين المتداخلين كافة، أما الاستثناء فخطاب هادئ يدلي به بعض العقلاء وسرعان ما يذوب في الجلبة الثورية متعددة الأصوات والاتجاهات .

ولا يدري كل من تأخذه الحماسة إلى حد الهلوسة أن ما يجري من تناحر سياسي باسم الثورة تنقله الصور على الهواء، هو تشويه لسمعة تونس وخصم من رصيد الاحترام الدولي لما أنجزه شعبها قبل نحو عامين، عندما ثار على نظام استبدادي بتحرك جماهيري راق أدهش الأعداء قبل الأصدقاء .

تلك الصورة الناصعة باتت تتآكل، وحملت الأيام العشرة الماضية حادثتين بسطتا وشاحاً قاتماً على وجه تونس، الأول تمثل في الاحتجاجات الشعبية في محافظة سليانية والقمع المفاجئ الذي جوبهت به، وما أنجر من مواجهة بين الحكومة والمعارضة . وأظهرت تلك الاحتجاجات وضعاً يشكو الانفصام، فما يقوله الفريق الحاكم عن تنمية واستقرار وحل للمشكلات الاجتماعية، هو أقرب إلى التهيؤات التي تتراءى للحالم، أما الواقع فملطخ بصور المصابين بذخيرة صيد الأرانب والوعول التي استخدمتها قوات الأمن ضد المتظاهرين، وبأنباء ضحايا إضرابات الجوع والانتهاكات والاعتصامات المتنقلة من مدينة إلى أخرى .

الحادثة الثانية وهي الأخطر، عندما هاجمت ميليشيات ldquo;روابط حماية الثورةrdquo; المقربة من ldquo;النهضةrdquo; المقر الرئيس للاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) في الذكرى الستين لاستشهاد زعيمه التاريخي فرحات حشاد . وهذه حادثة سيكون لها ما بعدها، إذ سكبت مزيداً من الوقود على الأزمة الطاحنة في البلاد . وربما تكون تداعياتها محددة لمصير كل ما بُنيَ بعد الثورة وليس الحكومة المؤقتة فحسب، لأن حادثة الاعتداء المسجلة جاءت نتيجة تراكمات أشهر من الاحتقان بين الاتحاد والحكومة . ومن أكبر عوامل التوتر بين الجانبين الرغبة الجامحة للحكومة ldquo;النهضاويةrdquo; في إقصاء أغلب القوى الفاعلة حتى لا تكون عقبة أمام محاولات تمددها في السلطة فترة طويلة دون إزعاج .

الاتحاد العام التونسي للشغل صاحب الضربة القاضية في إطاحة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، يشعر بغبن قاتل من سياسات الحكومة وتجاهلها المتعمد لدوره المحوري في ميلاد الواقع الجديد لتونس، مثلما كان دوره محورياً في حركة التحرير الوطني وبناء الدولة المستقلة .

هناك أزمة خطرة محدقة بتونس إذا لم يَتَحلَّ من جاء بهم ldquo;القدر الثوريrdquo; بالتواضع الوطني المسؤول، فالثورة التي يريد كل طرف خطفها بطريقته وتكريسها لنظرته الضيقة، ليست إنجاز حزب من الأحزاب، بل هي حق للشعب كله بلا استثناء أو إقصاء أو استكبار لن يستمر طويلاً .

[email protected]