فتحي العكرمي


السؤال عن الإنسان: اذا افترضنا ان الإنسان هو الكائن الأمثل بامتياز فان ذلك يستدعي توفّر مجموعة من الخصائص التي تجعله منخرطا في انتماء ما يدلّ عليه ومنتميا لطوطم معيّن: الوشم على الجسد في 'مجتمع اللادولة'، والقانون كدلالة على الدّولة ( فلاسفة العقد الاجتماعي، روسّو، سبينوزا...)، والوطن كعلامة على التميّز بمجتمع له خصوصياته كالتنظيم والعلاقات والقيم والسلطة السياسية والقانون الوضعي.
تاريخيا كانت الحروب والاستعمار والصراعات الاثنية والعقائدية حتّى داخل الملّة الواحدة بحثا عن تميّز ما والرّغبة في احتواء الآخر المختلف سعيا إلى سلطة ما تفتكّ بطرق متعدّدة: بالقرطاس/الإعلام/الخطابة تمريرا لمشروعيتها وتبريرا لوجودها الضّروري لتكون هي صاحبة الأمر والنّهي و'المراقبة والمعاقبة'، فهي التي تتحكم في توزيع الأوهام بتقسيط ذابح وهي التي تصنع عدوّا خارج الملّة توحيدا للجميع ضدّه: المجنون/المريض في الثقافة الإغريقية ،الشاذ والكافر والمتمرّد والخارج عن نواميس الفكر الجمعي المصنوع من فكر سلطوي في ثقافات مختلفة، فكأنّ قدر كلّ سلطة هو أن تتواطأ مع الفكر المنفعي والخاضع والسّلبي المتطابق معها لتواصل وجودها وتنفي وجود كل من يتناقض معها، ففي مفترق نمطين من التفكير المنقاد والناقد تلقي السلطة بثقلها.
لماذائية الثورة؟ هل هي نتاج صدام فعلي بين الحاكم /المحكوم وبين المالك/التابع، التّرف/الخصاصة، من يملك كل الحقيقة/ المخطئ؟
ألم يكن الصراع بين المواطن والسلطة لحظة يقدّم فيها الشهيد جسده للموت ودمه قربانا لحرية الآخرين؟
ألم تكن الثورة تجسيدا لأفق أضحى مسدودا نتيجة لاستعباد الأجساد وهتك الأرواح نتيجة التسلّط والظّلم والقهر؟ ألم تكن السّلطة صانعة ومصنوعة ومتخفّية وراء المالكين والمتحكّمين والحاكمين ومالكي الحقيقة الكاملة لذلك فهي تحافظ على تواصلها بصنع عدوّ محتمل مثل: الإرهاب،الشيطان الأكبر،المتمرّدون، من يفكّر بطريقة تختلف عن السائد؟
من ركام الفجائع انتفض الإنسان في المواطن التونسي تمرّدا على مخزون الخوف والخساسة طلبا لكرامة مفقودة وبحثا عن وطن بيع مرارا وسرق حتّى أضحى 'وطنا يفتّش عن وطن'. انحسر ذات يوم كل مخزون الصّبر وانتهى الانتظار وماتت الأجوبة عن الأسئلة التي ظلّت مقموعة فكانت الرجّة التي بعثرت كلّ الأوهام.
كشف الواقع عن حقيقته وانزاحت الأقنعة فظهر ما كان راكدا لسنوات: ركام من القلق والصّبر والانتظار وأكداس من الخوف وسيل من الوعود، لقد انتصر الفكر على اللافكر فلم تكن العدالة سوى كلمة للتنظير لاوقع لها ولا وجود لها في الواقع. حانت اللحظة للشّهداء وللمنسيّين وللمشرّدين وللمقموعين وللفقراء ولليتامى وللحالمين بالوطن فاجتمعوا ليستردّوا ما ضاع طوال سنوات عجاف قتلت الفكر والروح والجسد والأمل والفرح.
-الباقون في هذا الوطن: هم الشّهداء الذين لم يصنعوا بلادا جديدة فحسب بل كتبوا أيضا بدمائهم تاريخ بقية الأوطان ،لقد عاشوا بأرواح متمرّدة واستشهدوا بأجساد قتلها القمع مرّات متكررة فهم أبقى منّا جميعا وهم من صنعوا جغرافيّة جديدة للوطن وللعقول وللأجساد وهم من سطّروا لمستقبل من سيأتي لهذا الوطن الذي لا يمكن وصفه الا بكل ما قيل في كل نصوص الشّعر فهو أقوى من العشق وأسمى من الحبّ، ألم يكن لون العلم الذي صنعه شهداء الاستقلال أجمل لون يجمّع كل ألوان الدنيا: دما ووردا وإقبالا على الحياة ورغبة في العطاء وحبّا في هذا التراب الذي ينضح عطرا وإبداعا وتميّزا؟ ليس غريبا أن تكون هذه البلاد مدرسة ثوريّة بما أنّ شعبها ظلّ واقفا رغم سنوات الموت والقمع والتشرّد والمراقبة والعسس والظلم، كانت إرادة الحياة قويّة' فاستجاب القدر'.
- الإنسان /المواطن صانع التاريخ: يطالعنا الإرث الإنساني بحقائق تؤكّد أنّ التاريخ يتحدد مساره بواسطة تفاصيل صغيرة في بدايتها لتصبح مغيّرة لمجرى المستقبل: الفقر واليتم والاحتقار الذي عاشه من غيّروا مسار التاريخ فكل فرد من هؤلاء هو حياة ممتلئة فكرا وروحا وأملا وإبداعا وفعلا وألما وصبرا وعطاء، فهل من الحكمة أن يظلّ مواطن /إنسان منسيّا أو محتقرا بما أنّ العالم يبدأ من داخل كلّ فرد؟
أليس من المعقول القول أنّ كل إنسان/مواطن هو أقوى من كل قيد ومن كل تسلّط بما أنّ العقل والجسد يمتلكان من القدرة التي تفوق كل توقّعات المنجّمين والحاكمين والخاضعين لنمطيّة ثابتة في التفكير؟
من ركام الهزائم ينتفض الفرد /الجماعة كطائر الفينيق بحثا عن الحياة وكسرا لكل القيود ورفضا للاستبداد طلبا لحرّية دالّة على إنسانية الذات المصنوعة من العدالة ومن الكرامة ومن الاعتراف بأن كل فرد هو في حدّ ذاته وجود وحياة وفكر ومشاعر وأمل، لهكذا أسباب انفلقت الثورة وصبّت نارها على كلّ الملتحفين بالتسلّط و بالإكراه وبالإخضاع، الذين تناسوا أنهم يسوسون بشرا يحيون وسط الحياة وليس على حافتها لهم كل الحقوق التي لاتنفصل عن إنسانيتهم وعن وطنهم وعن التربة التي يحبّونها الى أقاصي حدود العشق.
- أبجديّة الدرس الثوري: علّمنا الشّهداء أنّ تونس هذا المارد الشامخ المصنوع من العزيمة ومن الصّبر ومن الحبّ لا يحيا إلا إذا كان كلّ من يسكنه منخرطا في وجود حقيقي تتجمّع فيه الكرامة والإنسانية والقدرة على التفكير والتعبير والانفتاح على المختلف تجاوزا للانغلاق وللتعصّب وللعنف الذي يجسّد غياب العقل.
أليس هذا الوطن المفرط في حسنه هو الشّاهد على مرّ العصور على أنّه ما من أحد تسلّط وأرعب وشرّد إلاّ وغادر هذه البلاد خاسرا؟
ألم ترفض هذه الأرض كل من لم يعرف أن كلّ فرد في هذا الوطن ليس خيالا بل هو الإنسان وفي قمّة قدراته على الفعل وعلى التفكير وعلى الرفض وبخاصّة على إعادة رسم التاريخ لأنه ليس حارسا لمصير يصنعه الآخرون بل هو الصانع له.
دمتم أيّها الشّهداء علامة للحرية ولمطلق الشّجاعة ورمزا لعشق هذا التراب ودمت أيّها المارد حرّا وشامخا وعصيّا على كل جبروت ' ياوطنا نبيع من أجله الدنيا وما فيها'.