محمد نور الدين

أذكر ان رئيس الأركان التركي في العام 1997 أعلن أنه سيحارب ldquo;الرجعيةrdquo; ولو لألف عام، وrdquo;الرجعيةrdquo; هنا تعني في قاموس المتشددين من العلمانيين والوصائيين العسكريين حينها في تركيا الحركة الإسلامية، ولقد استمرت ldquo;الرجعيةrdquo; خطراً وتهديداً رسمياً للنظام العلماني على امتداد سنوات .

اليوم يمر 15 عاماً على ldquo;انقلابrdquo; 28 فبراير/شباط المقنع ضد حكومة ldquo;الرجعيrdquo; نجم الدين اربكان .

لم تصمد معركة الألف عام سوى بضع سنوات سرعان ما انقلبت على رأس محاربيها المتشددين، لم تتغير تركيا بين عامي 1997 والعام 2012 فقط لجهة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين بل كذلك لجهة العلاقة بين المدنيين والعسكر .

إذا توقفنا عند النقطة الأخيرة فإن تركيا دارت دورة كاملة .على امتداد أربعين عاما ونيف كانت السلطة السياسية بيد المؤسسة العسكرية . مرت أحزاب كبيرة وشخصيات سياسية ldquo;تاريخيةrdquo; مثل نجم الدين اربكان وسليمان ديميريل وبولنت اجاويد وطورغوت اوزال . وحمل كل منهم مشروعاً مختلفاً عن الآخر . تغيرت اتجاهات اقتصادية وظهرت نزعات اجتماعية لكن الجيش بقي رمزا للدولة وسيداً آمراً ناهياً . كان يتغير الجميع ويبقى وجه الجيش ذا النجوم والسيوف .

لم يكن ظهور ldquo;حزب العدالة والتنميةrdquo; ووصوله إلى السلطة عام 2002 مجرد تبدل في الحكومات وشكل السلطة السياسية .كان نهاية لمرحلة نجازف ونقول إنها استمرت منذ العام 1923 أي منذ تأسيس الجمهورية وبداية لمرحلة جديدة بالكامل كان من أبرز معالمها إنهاء نفوذ العسكر في الحياة السياسية وتواريه خلف القرار السياسي، رغم أن هناك أصواتاً مهمة مثل الكاتبة والنائبة السابقة نازلي ايليجاق لا تزال تعطي فرصة في المستقبل لعودة الانقلابات العسكرية .

لم ينجح ldquo;حزب العدالة والتنميةrdquo; في التخلص التدريجي من نفوذ العسكر لعبقرية استثنائية أو لأعجوبة لا تتكرر إلا عند أشخاص محددين . لكنها حتمية التحولات الداخلية والخارجية (ولا سيما الدعم الأمريكي بعد رفض الجيش التركي المشاركة في غزو العراق) التي أفضت في النهاية إلى سقوط ldquo;أسطورة المؤسسة العسكرية التي لا تقهرrdquo; .

ولقد كان تاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2010 حداً فاصلاً بين مرحلتين أنهت الركائز القانونية لسقوط نفوذ العسكر بعدما أسقطت المتغيرات الاقتصادية ركائز نفوذه الاجتماعية .

لقد قدّمت تجربة حزب العدالة والتنمية نموذجاً ناجحاً لإخضاع الجيش للقرار السياسي وهو ما يمكن أن يشكل حالة استلهام في دول العالم الثالث وليس العالم الإسلامي فقط .

لكن هذا ، مع ذلك لا يكفي، إذ إن خطر استبدال وصاية عسكرية بأخرى سياسية أو مدنية أو حزبية ما زال قائماً من خلال عدم نجاح حزب العدالة والتنمية حتى الآن في تعميم الحريات وبالتالي ترسيخ الديمقراطية ولا سيما الحريات الصحفية والفكرية، حيث ازداد عدد المعتقلين لقضايا سياسية وفكرية بصورة كبيرة وتمارس ضغوط قاسية على العديد من الصحافيين والكتّاب وأساتذة الجامعات البارزين ومنهم على سبيل المثال نوراي ميرت وإيجيه تيميل كوران ومحمد ألتان، فمنعوا من الكتابة في مواقعهم الإعلامية . كما أن عدداً كبيراً من الكتاب اعتقلوا وسجنوا بتهمة التعاون مع ldquo;إرهابrdquo; حزب العمال الكردستاني .

كما أنه توجد أخطار أخرى وهي أن النزعة الدينية في المجتمع يتم الدفع بها الى الأعلى عبر دعوة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إلى ldquo;تنشئة جيل متدينrdquo; الأمر الذي اعتبر بمنزلة محاولة لخلق ldquo;كائن من نمط واحدrdquo; متدين هو الصورة الأخرى ل ldquo;الكائن العلماني المحاربrdquo; الذي عمل أتاتورك وخلفاؤه على تنشئته على امتداد العقود الماضية .

ولعل ldquo;حزب العدالة والتنميةrdquo; الذي قطع شوطاً مهماً للغاية من أجل تمدين النزعة العسكرية في الدولة باستطاعته اعادة النظر بالعديد من نزعاته الأخيرة ومراجعة التجربة الناجحة التي يقدرها الجميع والتي يرغب الجميع في أن تكون كاملة النجاح .

ذلك إن أخطر ما يمكن ان تواجهه الديمقراطية في المجتمعات ldquo;قيد التشكل الديموقراطيrdquo; كما المتعددة الأديان والمذاهب والاعتقاد بأن إبعاد العسكر عن ممارسة السلطة مباشرة أو بالوصاية وحده يوفر سيادة النزعة المدنية والديمقراطية . إذ أن الاستبداد العسكري والتطرف العلماني لا يختلفان عن الاستبداد المدني والتطرف الديني .