عبد المنعم سعيد

كان عام 2011 هو عام laquo;الربيع العربيraquo; بامتياز، حيث جرت الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ولم يسلم الأمر من قلاقل كثيرة في بلدان عربية أخذت شكل مظاهرات وإضرابات واعتصامات لم تصل إلى درجة الثورة الكاملة، ولكنها أيضا لم تبق على الاستقرار كما كانت، وبالتأكيد لم تكن الأحوال في المغرب والجزائر والكويت وعمان والعراق أو الأراضي الفلسطينية طيبة. ولم تقتصر ظاهرة laquo;الربيع العربيraquo; على المنطقة العربية حيث صارت ظاهرة يقلدها الشباب في دول أخرى في العالم؛ سواء كانت في الصين أو روسيا أو حتى الولايات المتحدة في محاولات اقتحام laquo;وول ستريتraquo;، بل إنها وصلت حتى إسرائيل في شكل حركات اجتماعية. وبشكل ما، فإن laquo;ميدان التحريرraquo; في القاهرة شكّل ظاهرة في حد ذاته، وبدت شخصيات مثل بوعزيزي التونسي وخالد سعيد المصري ممثلة لعالم مقهور يثور عليه عالم من الشباب الغض الذي قهرته سلطات شاخت على مقاعدها، ولا تريد مغادرة السلطة التي عاثت فيها فسادا كبيرا. ولم تكن كل هذه الثورات سياسية فقط، حول الثورة أو التغيير وأشكال الحكم، ولكنها أنبتت أشكالا جديدة من الموسيقى والفنون التشكيلية، وأنواعا من التمرد الأدبي.

مضت حالة الربيع العربي 15 شهرا تغيرت فيها أمور كثيرة، وذهبت شخصيات كان الظن ذائعا أنها لن تذهب أبدا إلا إلى قبر، ومعها سقط شهداء وجرحى، وسارت المسيرة أحيانا في ثوب الحرب الأهلية، ولم يخل الأمر من تدخل أجنبي أخذ أشكالا بين المال والعنف المسلح. وفي عام 2012، لم يبق من حصاد للربيع إلا ذهاب علي عبد الله صالح في اليمن، وصار الربيع وحلا كبيرا في سوريا بعد عام من الثورة والمواجهة. صحيح أن النظام البعثي تعرضت هيبته ومكانته لضربات كبيرة حتى بات من الصعب تصور أن يبقى على حاله دون تغييرات جوهرية، إلا أنه بقي على أي حال، ومن ساعتها تبدو دمشق وكأنها آخر معارك الربيع الذي تحول إلى صيف حار ممتلئ بالعواصف الرملية الساخنة. وبقدر الرومانسية التي ذاعت مع بداية laquo;الربيع العربيraquo;، فإنه سرعان ما عادت الثورات إلى أسمائها الحقيقية وهي أنها تعبر عن مرحلة تحول عميق في المجتمعات العربية جرى غرس أصولها على مدى العقود الماضية. ما بدا حديثا ومسايرا للعصر وتكنولوجيا المعلومات وlaquo;فيس بوكraquo; وlaquo;تويترraquo; كان سطحيا ولم ينزل داخل المجتمعات العربية بالعمق الكافي، بينما قفزت المعارضة التقليدية على مدى العقود الثمانية الماضية، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، إلى المقدمة؛ سواء عند عقد laquo;مليونياتraquo; الثورة واحتلال الميادين، أو عند صناديق الانتخابات التي امتلأت بمؤيديهم. وفي العادة، ووفقا لتقاليد تاريخية، فإن قيادة تيار آيديولوجي لعملية التغيير تفرض وجود تيارات laquo;أصوليةraquo; أكثر تطرفا إزاء حرفية النظرية. وعندما قادت الأحزاب الشيوعية بلدانا في العالم ظهر فورا إلى جانبها أحزاب تروتسكية وماوية وجيفارية، ومن يريد الثورة الدائمة أو المستمرة، والمهم أن لا تنتهي أبدا. وكان ذلك ما حدث مع الإخوان المسلمين عندما ظهرت تيارات سلفية ومعها الجماعات الإسلامية الجهادية التي عادت جذورها إلى تسعينات القرن الماضي. وربما نجحت الولايات المتحدة في اغتيال أسامة بن لادن، ولكن جماعاته الكثيرة بعد تعديل مناهجها عادت مرة أخرى إلى الساحة. وباختصار، وهذا ما يهمنا، شحب جيل الثورة والربيع وحل محله ما كان تقليديا ومعلوما في السياسة بالضرورة، وهو أن الحركات المغرقة في تقليديتها هي الخصم الحقيقي لنظم الحكم القائمة. وما جرى أنه ما كان laquo;فزاعةraquo; في الماضي قد صار حقيقة واقعة وجزءا من اللعبة السياسية التي جرى لعبها في كل دولة، حسب قواعدها الخاصة وتاريخها المتميز.

ما جرى في البلدان العربية المختلفة من ظهور للحركات الإسلامية ربما وضع عقبة أمام الربيع العربي، والأرجح أنه دفع شباب بلدان عربية كثيرة إلى التفكير فيما إذا كانت الثورة والربيع ما هي إلا أقصر الطرق لتسليم البلاد لحركات سياسية لها آيديولوجياتها الخاصة التي حتى في أكثر صورها اعتدالا لا تقود إلى ما صار حلما للحاق بالتجارب التركية والماليزية والإندونيسية، لأن جماعتنا في العالم العربي فيهم من المحافظة ما يكفي، كما أن مطرقة وسندان السلفيين يهددانهم طوال الوقت بفقدان الساحة التي يشغلونها. وكأن كل ذلك ليس كافيا من ناحية نظم الحكم الجديدة، إلا أنها وبعد أكثر من عام على الربيع ظلت مشوبة بأشكال مختلفة من العنف والطائفية بل وحتى التهديد بتقسيم البلاد. وما بدا عالما عربيا مختلفا سرعان ما عاد إلى سابق عهده، بعد أن انقسم السودان ثم دخل على أبواب الحرب بين شماله وجنوبه كما اعتاد؛ وحتى القضية الفلسطينية التي بدا أنها ساكنة سرعان ما ظهرت علامات بها من جديد. وربما كانت زيارة أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى لا تزيد عن محاولة تذكير العرب بأن الربيع العربي ربما لم يغير من القضايا التي نعرفها الكثير.

ومع ذلك، لا نستطيع القول إن الربيع العربي قد مات؛ فقد تغيرت أشياء ولم يعد ممكنا أن يعود الزمن كما كان. وربما كان هناك خطأ في القول إن التاريخ العربي انتهى عند نشوب الربيع العربي، فهناك من القضايا والأمور التي لا تبلى بفعل ربيع أو خريف أو كل فصول العام أو كل الأعوام. فمن الثابت أنه لم يعد ممكنا القبول بنظم الحكم العربية القائمة كما هي، وإذا كانت هناك حيرة فيما نفعله بها داخل النخب الحاكمة نفسها ودرجة التغيير الممكنة والمقبولة، فإن الرغبة في التغيير أكثر راديكالية لدى شرائح اجتماعية أنبتتها هذه النظم ذاتها، ولا سبيل إلى عودتها للقمقم مرة أخرى. هذه الشرائح الآن ربما تكون أكثر نضجا، وربما تعلم أن لثورة التكنولوجيا حدودا، كما أنها تعرف مدى سذاجتها وعدم قدرتها على إدارة عمليات سياسية معقدة، ولكنها عرفت أيضا السر الأعظم لتحريك الجماهير. تغير آخر بات سائدا له علاقة بتصاعد الثقافة القانونية وعلوم الدستور؛ فعندما نجحت الثورات وجدت نفسها في مواجهة دول جديدة ولم يكن هناك ملاذ إلا الاحتماء بالقانون في مواجهة الفوضى. وعلى الرغم من أن الفوضى جرت أحيانا وبثمن فادح، فإن الخروج منها كان من خلال القانون ووضع الدستور. وحتى في الدول التي لم يدركها الربيع بعد، فإنها كي تتجنبه وتتمتع بكل فصول الثانية، فتحت الكتب بحثا عن طرق للشرعية القانونية لكي تضيفها لكل أشكال الشرعية التقليدية التي تعرفها.

كل هذه آليات أفرزها الربيع العربي وتعمل في الواقع وتغيره، ومن الجائز أن الربيع ربما وقف في استراحة محارب على أبواب دمشق بحثا عن بداية جديدة.