عبد الله الأشعل


في خضم الجدال الدائر الآن في مصر حول الدستور وشكل النظام السياسي المأمول، أظهر الكثيرون عداءً للنظام الرئاسي على أساس الاعتقاد بأنه المسؤول عن الاستبداد والتحلل من القيم اللذين سادا في ظل نظام حسني مبارك، فصارت المطالبة بالنظام البرلماني هي الوقاية من الحاكم المستبد. وفهم البسطاء أن النظام الرئاسي يجعل الرئيس متحكماً في كل شيء من دون ضوابط ولا سلطان أو قيد عليه، حتى ارتبط نظام مبارك بهذا الشكل البشع من النظم الرئاسية، ولذلك اقترح البعض أن الحل هو اعتناق النظام البرلماني الذي فهمه الناس على أنه يمكن ممثلي الشعب من مراقبة الحكومة ومحاسبتها وإلزامها بالقانون ومناقشة الموازنات وتنفيذها ورعاية المصالح العامة.

والحق أن المفاضلة بين النظامين الرئاسي أو البرلماني والمناقشة حول أشكال النظم السياسية جذبت الشعب إلى المشاركة في الثقافة السياسية التي لم يكن له علاقة بها، بل درج الناس على رسم صورة المواطن الصالح وهو أن من خصائصه أنه لا علاقة له بالسياسة وترك كل أموره للحاكم السياسي والتفرغ لعمله منقطع الصلة بالسياسة.

عزلة الجمهور

وتلك من سلبيات العصور السابقة التي هيأت لمجموعة من المحترفين المنتفعين أن يفعلوا ما يحلو لهم ضد المصالح العامة ما دامت ثقافة المجتمع تقضي بمنع الناس عن مجرد الاستفسار عما يجري؛ فكيف بالقدرة على مراقبة المسؤولين ومحاسبتهم، بل إن طوائف الصوفية دعت إلى الانصراف عن الدنيا، فانقض الحاكم عليها على أساس أنها اختارت الآخرة، وانطلقت أيدي حكامنا في هذه البيئة laquo;الصالحةraquo; للنهب والإفلات من الرقابة والحساب، بخاصة أن رأس النظام عطل أجهزة الرقابة التي انخرطت هي الأخرى في هذه الملحمة.

بعد الثورة مباشرة أصبحت صورة المواطن هي ذلك المواطن الذي انخرط في فهم ما يجري فودع الاهتمامات والتعصبات الكروية التي شغل بها نفسه في مرحلة الاستبداد السياسي لدرجة أن العلاقات المصرية الجزائرية مثلاً تعرضت للأذى المقصود، ولم تكن مصادفة أن نجل الرئيس المخلوع علاء مبارك أشعل الفتنة حتى نادى به الشعب، بإيعاز من الأجهزة الأمنية، رئيساً باعتباره الوطني المحبوب الذي يدافع عن كرامة مصر ضد laquo;عدوان الجزائرraquo;.

وهنا لا بد من المطالبة بالتحقيق في هذه الفضيحة ومع من تورط فيها من أسرة مبارك ورجال الأمن وأصنام الكرة المصرية من مسؤولين ومعلقين رياضيين انفسحت لهم الساحات للولوغ في دماء مشتركة دفعتها أجيال في البلدين من الوطنيين، قبل أن تغزو مصر جحافل العدو وتشكل فرقاً للتخريب الإعلامي والسياسي للوطنية المصرية. حتى إن أحد هؤلاء عاب علناً على الجزائريين عجزهم عن التحدث باللغة العربية على سبيل التعريض بهم والطعن في نسبهم للعروبة مع العلم أن صاحبنا دخل الإعلام من أبواب معروفة للجميع، كما لا يعرف سوى اللغة العربية المتواضعة.

النفوس والنصوص

النظام الرئاسي إذاً في الدستور المصري صار قريناً بنظام مبارك الفاسد وكأن المشكلة تكمن في نصوص الدستور، ولذلك أصبح حتماً فك الاشتباك بين مبارك والنظام الرئاسي في الدستور، حتى لا يظن أن النظام البرلماني ينهي احتمال تكرار ما حدث لمصر في عهد مبارك. الصحيح هو أن مبارك ونظامه لم يحترما نصاً واحداً في الدستور وشكلا برلماناً مزوراً له ثلاث وظائف، الوظيفة الأولى، هي أنه وعاء للفساد في تكتل غريب ضد مصر والمصريين اتخذ البرلمان من البرلمان اسمه من دون أي مضمون، والوظيفة الثانية هي أن البرلمان جهاز لضخ التشريعات المؤكدة للفساد والاستبداد وتكريس الفساد بالقانون وهو ما اتضح في مجالات الحياة كافة، وأهمها سلب الملكية العامة للشعب في ما عرف بالخصخصة، وتمكين الأجانب من نهب ثروات البلد بالتواطؤ مع النظام، والوظيفة الثالثة هي تخريج طبقة من السياسيين البرلمانيين والحزبيين والوزاريين من المنتفعين فاقدي الوطنية والكرامة انخرطوا في مشروع إجرامي أسقطوا به شرعية الدولة واستخدموا الأمن في إذابة النظام في الدولة، فلم يبق سوى أسنان النظام الأمنية التي فقدها في المواجهات مع الثوار في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 2011.

لقد تمكن مبارك بهذه الطريقة من الجمع بين صلاحيات الرئيس في الدستور والصلاحيات الاستثنائية من البرلمان، فأصبح يجمع في يده السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية واخترق السلطة القضائية، ولذلك كان امتهان أحكام القضاء من تقاليد نظام مبارك، ففسد النظام بكل مكوناته.

ومعنى ذلك أنه ولو ظلت سلطات الرئيس في الدستور وكذلك صلاحياته الاستثنائية، فإن انتخاب رئيس وطني وبرلمان حقيقي، سيؤدي إلى تطبيق الدستور في شكل جدي يكفل رقابة البرلمان على الرئيس بل واتهامه بالخيانة العظمى، ويسمح للأجهزة الرقابية بالعمل على كشف الفساد مبكراً، بما ينهي حال التواطؤ بين سلطات النظام الثلاث ضد مصر وشعبها في سابقة بالغة الخطر استطال عمرها أربعة عقود متتالية. خلاصة القول إنه وإن كان النظام السياسي في الدستور يوصف بأنه نظام رئاسي، وأنه كان يوصف أيضاً بأنه نظام ديموقراطي بضمانات محددة، كما أنه نظام جمهوري، ولكن المشكلة أن نظام مبارك لم يحترم القسم على صيانة الدستور واحترام القانون ورعاية مصالح الشعب، كما لم يطبق أي نص على ضمان النظام الديموقراطي لا سيما التعددية الحزبية الحقيقية والفصل بين السلطات وإعلاء مبدأ سيادة القانون واحترام الحريات العامة.

فإذا صح انتخاب الرئيس وليس تزوير انتخابه، وألزم بتطبيق القانون والدستور في إطار السلطات الثلاث التي يتم الفصل بينها في إطار التعاون للصالح العام، فإن النظام الرئاسي يصبح صالحاً لمصر، وذلك لتفادي أهم مساوئ النظام البرلماني وهو احتمال التواطؤ بين النواب والرئيس من الحزب نفسه، ما يعطل أهم مقومات الديموقراطية. ولما كان وضع الدستور أصبح إشكالية تثير الشك في نيات إكمال المرحلة الانتقالية، كما تثير الجدل في إجراءاته وربط انتخابات الرئاسة به، فهناك بدائل عدة لهذه الإشكاليات المصطنعة تقوم على أساس أن تُجرى انتخابات الرئاسة في موعدها كما هو مقرر في إعلان اللجنة العليا للانتخابات. أما البدائل، فهي إعادة قراءة دستور 1971 وتنقيحه بما يتفق مع مصر الجديدة، بخاصة نظامها السياسي المخطط وتعزيز موقع الحكومة ورئيس الوزراء وتعيين أكثر من نائب للرئيس وإسناد سلطات حقيقية اليهم بما لا يتصادم مع سلطات مجلس الوزراء. أما البديل الثاني فهو أن تُشكل لجنة خبراء لوضع المشروع بناء على مناقشات اللجنة التأسيسية. وفي هذه الحال لا بد من أن تكون تلك مناسبة لتقديم ثقافة دستورية وسياسية واسعة للشعب من خلال الشروح والندوات. وهذه العملية قد تستغرق عاماً، ولا ضير في ذلك ما دام الرئيس منتخباً وفاعلاً.