كتب: George Jonas

لو كان العالم أشبه بدائرة شرطة، لكانت منطقة صدام جزءاً ضبابياً منها. ولكانت الخلافات القائمة بين العراق وإخوته العرب أو المسلمين تُلزم العالم بأن يرد على طلبات النجدة سبع مرات بين عامي 1990 و1998، أي قبل فترة من عهد بوش الابن.
قد تكون جميع الحروب أشبه بالجحيم، لكن من المعروف أن الجحيم له معنى واحد. يمكن أن نخفق عند الانسحاب من الحرب في مرحلة مبكرة كما فعل بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى أو في مرحلة متأخرة كما فعل بوش الابن خلال حرب الخليج الثانية (هل انسحب منها أصلاً؟!). لقد ترك بوش، باراك أوباما أمام مهمة تنكيس العلم إعلاناً عن الهزيمة، مع أن بوش كان لينكس العلم ويعلن انتصاره.
سألني مقدم أحد البرامج الحوارية: ldquo;هل تظن أن غزو العراق كان قراراً خاطئاً؟rdquo;.
فأجبتُ قائلاً: ldquo;لا، لم يكن ذلك الغزو خاطئاً، بل تمثلت الغلطة الأساسية بعدم المغادرة بعد الفوزrdquo;.
أنا أقول وأكتب هذا التحليل منذ ثماني سنوات تقريباً. لم تشارك كندا في عملية العراق، ولكنها شاركت في أفغانستان. إنها وجهة نظر أقلية من الخبراء. يظن بعض المحللين أن التدخل العسكري الغربي في بلاد ما بين النهرين أو في ldquo;هندوكوشrdquo; كان خاطئاً استناداً إلى الفكرة القائلة إن القوى الغربية يجب ألا تغادر، حتى تتحول جميع الأراضي الواقعة بين الخليج العربي وأمو داريا إلى أنظمة ديمقراطية على طريقة جيفرسون.
تشمل الفئة الثانية من المحللين زملاء أحترمهم ولكنني أخالفهم الرأي. نادراً ما يكون إسقاط طاغية ldquo;عدائيrdquo; قراراً خاطئاً، ولم يكن الأمر كذلك في حالة صدام حسين. لو كان العالم أشبه بدائرة شرطة، لكانت منطقة صدام جزءاً ضبابياً منها. وكانت الخلافات القائمة بين العراق وإخوته العرب أو المسلمين (بعيداً عن حربه مع إيران) لِتُلزم العالم بأن يرد على طلبات النجدة سبع مرات بين عامي 1990 و1998، أي قبل فترة من عهد جورج بوش الابن.
لابد من تعداد تلك المناسبات السبع لأننا ننساها بسهولة. في شهر أغسطس من عام 1990، أقدم العراق على غزو الكويت، ما أجبر الأمم المتحدة على فرض عقوبات تجارية ولكنها لم تكن تفي بالغرض. فبقي صدام في الكويت وبدأ يهدد المملكة العربية السعودية أيضاً. عام 1991، كان لابد من شن حرب الخليج لإضعافه وإرجاعه إلى ما وراء حدود بلده.
انتهت تلك الحرب في شهر فبراير. بعد شهر على ذلك، فرض مجلس الأمن شروطاً تقضي بنزع الأسلحة وإجراء عمليات تفتيش في العراق، لكن سرعان ما انتهك صدام تلك الشروط بعد 24 شهراً عندما نقل صواريخه إلى جنوب العراق، ما أجبر الأميركيين وحلفاءهم على إطلاق سلسلة من الاعتداءات الجوية ضد مواقع صدام الصاروخية وضد منشأة بالقرب من بغداد في يناير 1993.
لم يتأثر صدام بتلك الاعتداءات كثيراً، بل كان الأمر أشبه بأن تقوم سيارات الشرطة بزيارات دورية إلى المواقع المشبوهة. في المرحلة اللاحقة، عمد إلى التخطيط لاغتيال الرئيس الأميركي السابق جورج بوش خلال زيارته للكويت. في يونيو 1993، شعر البيت الأبيض في عهد كلينتون بأنه مجبر على إطلاق 24 صاروخاً من طراز ldquo;كروزrdquo; على مقر الاستخبارات التابع لصدام في بغداد (حصل ذلك على الأرجح لتلقينه درساً قاسياً لكن لم تكن تلك الخطة نافعة).
بعد 16 شهراً على ذلك، في أكتوبر 1994، اضطرت الولايات المتحدة إلى نشر مجموعة من الحاملات التي تضم 54 ألف جندي وطائرات حربية لمواجهة صدام الذي بدأ يحشد قواته على الحدود مع الكويت. لكن سرعان ما انسحب طبعاً بعد أن استقرت الحاملات في الخليج، وكان المقاتلون المحليون يتراجعون حالما يرون سيارة الدورية تقف أمام منزلهم.
لا شك أن الدوريات مكلفة بطبيعتها. فقد كلّف التدخل السادس الذي وقع في سبتمبر 1996 حوالي 1.4 مليار دولار، بعد أن زحف جيش صدام باتجاه ldquo;الملجأ الآمنrdquo; الكردي في شمال العراق، ولكنه شمل على الأقل إطلاق مجموعة من صواريخ ldquo;كروزrdquo; (يكلف كل صاروخ منها مليون دولار تقريباً) على المواقع العراقية المضادة للصواريخ. أما المغامرة التالية التي حصلت في فبراير 1998، فقد كلفت القيمة نفسها تقريباً لكن من دون توجيه أي ضربة هذه المرة. سرعان ما خمدت الأزمة عندما قام أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان بزيارة صدام وتعهد بإعادة النظر في العقوبات.
استلزمت منطقة الخليج الشائكة تدخلاً آخر في شهر نوفمبر من السنة نفسها. أوقف صدام عمل مفتشي الأمم المتحدة الذين كانوا يراقبون العراق بحثاً عن أي أسلحة دمار شامل، وأكد أنه لن يسمح باستئناف عمليات التفتيش طالما تبقى العقوبات سارية المفعول.
شكلت تلك الحادثة نقطة بداية للعملية التي جعلت صبر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن ينفد بعد مرور أربع سنوات ونصف السنة وإنفاق مليارات الدولارات الإضافية. ما كان صدام يستطيع بعد الآن أن يجعل العالم رهينة مزاجيته. في ربيع عام 2003، أقدمت قوات التحالف على غزو العراق وهزمت جيش صدام خلال ستة أسابيع، ثم أخرجت الطاغية من ldquo;حفرة العنكبوتrdquo; حيث كان يختبئ تحت الأرض في شهر ديسمبر.
لم تكن تلك العملية غلطة بأي شكل، بل تمثّل الخطأ الذي ارتكبته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بعدم الانسحاب من العراق بعد هزم الطاغية وأسره.
لقد سُحب صدام من جحره في 13 ديسمبر 2003. لكن تكبد التحالف خسارة بشرية تمثلت بمقتل 600 شخص تقريباً. كان يمكن أن يعلن الرئيس بوش النصر حينها وأن يعود إلى دياره في اليوم التالي. لكن بدلا من ذلك، أمضت الولايات المتحدة ثماني سنوات إضافية هناك وأهدرت حياة 4 آلاف شخص، لحث العراقيين على بناء وطن خاص بهم.
لكن لم ينفذ العراقيون تلك المهمة. غادر الأميركيون البلد أخيراً في 18 ديسمبر 2011 من دون معالجة أي مشكلة. في اليوم الذي كتبتُ فيه هذه المقالة، في 10 مايو 2012، وقعت سلسلة من التفجيرات على خلفية طائفية وأسفرت عن مقتل 35 شخصاً في بغداد ومدن أخرى، بالإضافة إلى جرح أكثر من 100 شخص. قد تكون هذه الحوادث جزءاً من مهمة بناء الأوطان لكن على الطريقة العراقية. ربما لا يحق لنا أن نحكم على الوضع هناك، لكن هل من واجبنا أن نشارك في تحسينه؟ لا أظن ذلك!