الحسين الزاوي

شكلت الانتخابات التشريعية الأخيرة في ليبيا، علامة فارقة ومميّزة في مسيرة الشعب الليبي نحو الديمقراطية وحكم المؤسسات، جاء هذا الموعد التاريخي بعد عقود من الاستبداد والدكتاتورية القائمة على حكم الفرد، الذي ظل يختزل في شخصه كل مقومات الدولة والوطن، لفترة تجاوزت أربعة عقود من الزمن . ورغم حداثة التجربة التعددية في بلد الشهيد عمر المختار، وقلة الخبرة المتعلقة بتنظيم الانتخابات، إلا أن النخبة السياسية الليبية نجحت في توفير كل شروط النجاح لهذا الاقتراع المصيري والحاسم بالنسبة لمستقبل الشعب الليبي . كما استطاع الليبيون في اللحظة نفسها، أن يتغلبوا على مجمل الصعوبات التي واجهت العملية الانتخابية بسبب تبعات الإرث الثقيل الذي خلفه النظام السابق على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

تأتي فرادة التجربة السياسية الليبية قياساً بتجارب دول الربيع العربي الأخرى من منطلق أن الثورة الليبية، حسمت بشكل كامل مع النظام السياسي الذي كان سائداً في عهد القذافي، وبالتالي فإن ما يحدث حالياً يمثل محاولة جادة من أجل إعادة بناء أسس الدولة الليبية التي انهارت خلال مرحلة الثورة، الأمر الذي يطرح تحديات صعبة على مختلف التشكيلات والقوى السياسية، في ما يتعلق بمشروع إقامة مؤسسات مستقرة وفعالة، تؤمن بالمشاركة السياسية وبضرورة الاحتكام إلى إرادة الشعب من أجل اتخاذ كل القرارات التي تتعلق بمصيره ومستقبله . وتشكل ليبيا بهذا المعنى استثناءً يحمل دلالات كبيرة بالنسبة للمشهد العربي برمته، من منطلق أن الليبيين لا يبلورون -في الغالب- قناعاتهم السياسية وفق منطلقات إيديولوجية بحتة، ولكن انطلاقاً من اعتبارات تستند إلى الكفاءة والقدرة على إعادة الاستقرار والسلم الاجتماعيين في كل ربوع ليبيا .

ويمكن أن نزعم في هذا السياق، أن الليبيين أحسنوا اختيار قانونهم الانتخابي الذي يسمح لكل أطياف المجتمع الليبي من الحصول على تمثيل متوازن، ما يعني أن على الفائز في هذه الانتخابات أن يتحالف مع تشكيلات أخرى، ومع منتخبين مستقلين من أجل مضاعفة فرص نجاحه في قيادة البلاد في المرحلة المقبلة، خاصة أن ليبيا في أمس الحاجة إلى تحقيق توافق ديمقراطي بين مكوناتها السياسية والثقافية والقبلية، بهدف ترسيخ قيم التضامن وتوطيد اللحمة الوطنية بين كل مناطق هذا الوطن المتنوع والمترامي الأطراف، من أجل الوصول إلى تجاوز كل الخطابات الانفصالية، التي يسعى بعضها إلى استغلال الضعف المرحلي للدولة الليبية، لبث الفرقة ما بين أبناء الشعب الواحد .

وعليه فإنه ورغم الاستقطاب الإعلامي والسياسي الذي يتم الترويج له ما بين حزب العدالة والبناء من جهة، وتحالف القوى الوطنية برئاسة الوزير الأول السابق محمود جبريل من جهة أخرى، إلا أن كل المعطيات تشير إلى إمكان تجاوز هذا الاستقطاب من أجل التدشين لمرحلة جديدة من الممارسة السياسية القائمة على التعددية وحرية التعبير والقبول بالرأي الآخر، لأن الرهان الوطني في ليبيا هو أخطر من الرهان السياسي الموجود عند جيرانها المصريين والتونسيين، من منطلق أن الليبيين ليسوا مطالبين فقط، بتأسيس نظام سياسي جديد، ولكنهم مطالبون أيضاً ببناء أسس وقواعد دولة قوية وحديثة مهابة الجانب، ضمن محيط دولي وإقليمي شديد الخطورة، نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة .

وهذه التحديات الكبرى التي تنتظر المنتخبين الجدد تجعلنا نأمل في أن تضطلع الجمهورية الليبية الجديدة بمهامها كاملة من أجل القيام بدور محوري وبنّاء ضمن جغرافيتها السياسية المعقدة، حتى تزيل ما علِق بصورة ليبيا من آثار سلبية في زمن نظام الجماهيرية المنهار، لأننا نعتقد أن الانتقال من الجماهيرية إلى الجمهورية ليس مجرد تغيير شكلي في الأسماء والمسميات التي ترمز إليها هذه الجمهورية، ولكنه يمثل تحولاً جوهرياً وعميقاً من الفوضى وغياب مؤسسات الدولة والاستبداد والحكم الفردي، إلى النظام والاستقرار وحكم المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً والمؤمنة بأهمية التداول السلمي للسلطة . كما أن ما يدفعنا جميعاً إلى التفاؤل بمستقبل الجمهورية الوليدة، هو تواتر التصريحات الإيجابية من طرف مختلف القوى السياسية التي شاركت في الانتخابات، التي عبرت عن قبولها واحترامها لنتائج صناديق الاقتراع، مؤكدة أن الوضع الحالي في ليبيا يستلزم مشاركة جميع أبناء الوطن في مسيرة البناء والتشييد وفي مسار التعددية والديمقراطية .

ونستطيع الاستنتاج تأسيساً على ما سبق أن نجاح أول انتخابات حرة في تاريخ ليبيا لا يعد هدفاً في حد ذاته، لأن الأهمية القصوى لهذا النجاح تكمن في أنه سيعطي الثقة الضرورية لكل الأطراف من أجل المساهمة في إيجاد حلول عاجلة وفعّالة لكل المشاكل التي مازالت مطروحة على طاولة النقاش السياسي وفي مقدمها مشروع المجتمع الذي يطمح الليبيون إلى تجسيده على أرض الواقع . وبصرف النظر عن مآل التحولات العميقة التي سيشهدها المجتمع الليبي، فإن الثمار الأولى لهذا العهد الجديد تكمن في أن الليبيين أصبحوا يمتلكون منبراً ديمقراطياً من أجل التعبير عن آرائهم واتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بمستقبلهم، بعدما ظلوا ولعقود طويلة ينتظرون على أمواج الإذاعة وشاشات التلفزيون ما سوف تجود به قريحة الزعيم الأوحد من قرارات ارتجالية .