نواكشوط - المختار السالم


يبدو أن الذهب مستمر في خطف أرواح الموريتانيين، ففي وقت لم يفق فيه الرأي العام الموريتاني بعد من هول الكارثة التي أودت بحياة سبعة ضباط ومدنيين من جراء تحطم مروحية عسكرية كانت في طريقها إلى ldquo;مصنع ذهب تازيازاتrdquo;، حيث أثار بعض زعماء المعارضة تساؤلات عن دور الجيش في نقل الذهب للشركات الأجنبية مقابل رشاوى للرئيس، دخلت نواكشوط هذا الأسبوع مثقلة بدماء أحد عمال مناجم الذهب محمد ولد المشظوفي الذي لقي مصرعه فجر الأحد الماضي بسبب تدخل قوات الحرس لقمع اعتصام عمال ldquo;شركة معادن إنشيريrdquo; (شمال)، ليكون ثالث ضحايا القمع في أقل من سنة بعد الشابين: الأمين منغان، والشيخ ولد الراجل .

بريق الذهب الموريتاني وملف الثروات التي ldquo;تنهبهاrdquo; الشركات الأجنبية، هما أحد انعكاسات الحريق السياسي للأزمة الطاحنة بين منسقية المعارضة ونظام الرئيس محمد ولد عبدالعزيز .

الحركات النقابية الموريتانية سارعت إلى التأكيد على أن ldquo;دماء الشهيد لن تذهب سدىrdquo;، وهو تعبير يحيل إلى تاريخ الحركة النقابية الموريتانية التي قدمت بسخاء شهداء الاستقلال الاقتصادي في ldquo;مذبحة أزويراتrdquo; المشهورة، كما سارعت أحزاب المعارضة إلى الإدانة الشديدة لمقتل العامل وطالبت ldquo;بإقالة وتوقيف كل القيادات العسكرية والأمنية التي أمرت بعملية القتل الجبانةrdquo;، مؤكدة أن ldquo;محاولات النظام اليائسة ترويع الناس والتنكيل بهم لن تزيدهم إلا تمسكاً بحقوقهم المشروعةrdquo; .

ووصفت المعارضة مقتل الشاب ولد المشظوفي وقمع العمال بrdquo;المشهد الوحشيrdquo;، معتبرة أنه يشكل ldquo;حلقة جديدة من مسلسل القتل والتنكيل ldquo;الذي ما فتئ النظام ينتهجه سعياً منه لتكميم الأصوات المتزايدة والرافضة لسياساتهrdquo; .

ورأت المعارضة في بيانات أحزابها أن ldquo;نظام ولد عبدالعزيز تحول من نظام مستبد إلى نظام مستبد وقاتلrdquo;، وأنه ldquo;أصبح يشكل خطراً على الشعب الموريتاني لفشله الذريع في فهم متطلبات التدافع سواء المطلبي منه أو الديمقراطيrdquo; .

حراك مستمر

دماء المشظوفي أحد عناوين الحراك العمالي المستمر في موريتانيا منذ سنتين على وقع عرائض الاحتجاجات المطلبية العمالية التي طالت أغلب القطاعات، وتعتبر ضمن الحراك الاحتجاجي على الواقع المعيشي الذي يسود شرائح واسعة من الشعب الموريتاني، فيما تراه منسقية أحزاب المعارضة تعطشاً للتغيير، والإصلاح لا يمكن إيقافه إلا بوضع حد لحكم المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد منذ 34 عاماً .

يأتي مقتل ثالث ضحية للقمع في موريتانيا قبل أيام من حلول الذكرى الثالثة لانتخاب الرئيس محمد ولد عبدالعزيز (18/7/2009)، وحيث تجري الاستعدادات على قدم وساق لتنظيم حدث استثنائي يتمثل في حوار مباشر بين الرئيس والمواطنين يستمر أربع ساعات، يستعرض فيه الرئيس حصيلة 3 سنوات من مأموريته (5 سنوات)، ويرد على الإشكالات المثارة حول الملفات المختلفة .

إن الملفات التقليدية المطروحة من قبيل مواجهة الفقر، وتدنى الأجور، وتدهور قطاعات التعليم والصحة، وكارثة الجفاف، والارتفاع الجنوني للأسعار، ليست هي الأكثر إثارة في اللقاء المنتظر، ذلك أن ملفات حساسة أخرى تنتظر توضيحات من الرئيس، وتبدأ من محيط أسرته الشخصية والاتهامات الموجهة له بالضلوع في الفساد، وخاصة علاقته بملف الثروات التي تضاعفت مداخيلها خلال السنوات الأخيرة من دون أن ينعكس ذلك على الوضع المعيشي للسكان، ثم ملف تأجيل الانتخابات العامة التي وضع تأجيلها شرعية المجالس الانتخابية (البرلمان، البلديات) في مهب الجدل والشكوك، والاتهامات باستغلال التركيبة العرقية للبلاد لأغراض سياسية، إلى ملفات إقليمية شائكة، حيث لوح الرئيس مرتين حتى الآن باستعداده للدفع بالجيش الموريتاني لخوض الحرب في شمال مالي التي يسيطر عليها الفرع المغاربي لrdquo;القاعدةrdquo; والجماعات السلفية المسلحة، وشبكات التهريب الإقليمية، في حين لا تخفي المعارضة مخاوفها من توريط جيش البلاد في ldquo;حرب بالوكالةrdquo; عن القوى الغربية .

إن عشرات الملفات الداخلية باتت تحاصر نظام الرئيس الموريتاني، وقد لا يكون ldquo;زواج المال العام ودماء ضحايا القمعrdquo; أقلها إثارة للجدل، فالمعارضة تؤكد أن الرئيس لم يعد لديه سوى ما قدمه نظراؤه في دول ldquo;الربيع العربيrdquo; من قمع وتنكيل وتجويع، في حين أن أنصار الرئيس يقدمون صورة بالغة الوردية عن الوضع العام، تتصدرها الإنجازات والمشاريع، في حين أن الأغلبية الساحقة من الموريتانيين لا تزال تلتزم الصمت .

صحيح أن الرئيس نجح في تجنب الثورة التي عملت من أجلها القوى الشبابية والمعارضة التقليدية خلال الشهور الماضية، وبات توقع حدوث ثورة في موريتانيا من قبل أغلب المحللين أمراً مستبعداً، بعد فشل القوى المناوئة في الالتفاف على مخططات النظام التي وضعها لإفشال الثورة . ولكن ومع ذلك استمرت الحركة الاحتجاجية الشعبية والعمالية مؤذية صورة أداء الرئيس، فيما سارت المعارضة الراديكالية إلى مزيد من التشدد نحو القطيعة النهائية مع النظام، وشددت قبضتها على ورقة النزول للشارع، محققة انتصارات معنوية لا يرغب أي رئيس موريتاني باستمرارها، حيث إن ورقة الاحتقان ظلت مبرراً للانقلابات العسكرية في البلاد التي تملك تاريخاً من 14 انقلاباً ومحاولة انقلابية في غضون ثلاثة عقود .

انسداد الأفق

إن معطيات الأسبوع الحالي تشير إلى حصول انسداد داخل الانسداد، وإلى فقدان أي تصور لدى أطراف الأزمة السياسية الموريتانية للخروج من الوضع الراهن، ذلك أن خيار منسقيه المعارضة بrdquo;عسكرة الشارعrdquo; (مسيرات، تظاهرات) لم تحسم المعركة مع النظام، بل لم تدفعه إلا إلى مزيد من ldquo;الأحاديةrdquo;، وبدا الشارع الموريتاني وكأنه غير واثق في جدية المعارضة وقدرتها على تنفيذ وعودها وحتى في تماسكها خلف رؤية موحدة، فيما لم يتمكن الرئيس بعد ثلاث سنوات على انتخابه من تحقيق استقرار سياسي، أو مواجهة المشكلات الاجتماعية المستفحلة .

وإذا كان العديد من زعماء المعارضة الموريتانية قد أكدوا هذا الأسبوع أن رحيل نظام الرئيس ولد عبدالعزيز ldquo;بات مسألة وقتrdquo;، فإن ما تشهره المعارضة من ldquo;مفاتيحrdquo; لا يدل على أنها صالحة لفك ldquo;قفل الرحيلrdquo; الذي استعصى على شعارات المنسقية وتظاهراتها .

وهكذا تبقى الأزمة السياسية الموريتانية في انتظار معجزة حل لا تبدو الآفاق واعدة بها في ظل تشدد الطرفين وعجزهما عن الحسم، وإن كانت ldquo;الخليجrdquo; قد رصدت بعض الإشارات التي تدل على أن النظام يسعى للدخول من ldquo;الباب الخلفيrdquo;، وإرباك مناوئيه الرئيسيين خاصة الثلاثي: ldquo;أحمد ولد داداه زعيم المعارضة، والرئيس السابق العقيد أعلي ولد فال، والإخوانrdquo; .

فقد انتهز الرئيس ولد عبدالعزيز فرصة عودة رئيس حزب ldquo;اليسارrdquo; محمد ولد مولود من العلاج في الخارج، وأوفد إليه مبعوثين رئاسيين،

يعتقد أنهم أبلغوا الزعيم اليساري القوي ورأس الحربة في مواجهة النظام رسالة شفوية من الرئيس .

مهندس اتفاق دكار

وتجدر الإشارة هنا إلى أن محمد ولد مولود هو أحد مهندسي ldquo;اتفاق دكارrdquo; ،2009 الذي وضع حدا لأخطر أزمة دستورية في تاريخ البلاد وقضى باللجوء لانتخابات توافقية وقتها .

كما تأجل أكثر من المتوقع رد منسقية أحزاب المعارضة على مبادرة مسعود ولد بلخير رئيس البرلمان الداعية إلى اللجوء لتشكيل حكومة توافقية من كافة الأطراف للخروج من الأزمة الراهنة .

كما أن عزوف الرئيس عن النزول للشارع خلال الأسابيع الماضية والرد بنفسه على اتهامات المعارضة، وهو ldquo;الرجل الشعبويrdquo; كما يوصف، أمر يعطي المحللين انطباعاً بأن الرئيس قرر أن يمنح الفرصة لجهود ما يطبخ في السر، وإن كان بعض زعماء المعارضة قد أكدوا لrdquo;الخليجrdquo; أنهم لم يشموا أي رائحة لطبيخ سياسي من هذا القبيل، بل واستبعدوا أن يكون الرئيس ولد عبدالعزيز نفسه مدركاً لخطورة الانسداد الراهن وما قد يترتب عنه من مخاطر على نظامه .

إلا أن المعارضة الموريتانية قد لا تكون معصوبة العينين إزاء أهمية تطورات أخرى، فهي ترى الرئيس ولد عبدالعزيز يستقبل في يوم واحد هذا الأسبوع مبعوثين من أمريكا وروسيا، جاء كل منهما لمناقشة الدور الذي يمكن لموريتانيا أن تطلع به في أمن الساحل، وخاصة الوضع في شمال مالي، حيث تتواجد القوة الرئيسية للسلفية الجهادية في الساحل الإفريقي، فيما ldquo;هرولrdquo; الرئيس السنغالي الجديد (ماكي صال) إلى لقاء ولد عبدالعزيز في أديس بابا، بنصيحة من فرنسا وفق التسريبات، في مساع لطي صفحة الخلافات مع موريتانيا، وفي خطوة أخرى يرفض الرئيس ولد عبدالعزيز تجديد اتفاقية الصيد مع الاتحاد الأوروبي بالشروط السابقة .

إن هذه التطورات تؤشر إلى أن الرئيس بدأ يستغل دوره الإقليمي، بقدر ما أنها تمنح المعارضة المزيد من الدلائل على أنها لن تجد سنداً خارجياً في هذه الفترة، فهل يدفع ذلك المعارضة الموريتانية إلى الوقوع فريسة لطعم الحل التوافقي، أم أنها ستستمر في ldquo;استراتيجية التصعيدrdquo; حتى إشعار آخر .

إن من المعروف عن السياسيين الموريتانيين قدرتهم الفائقة على اختلاق الظروف المناسبة للقاء أعدائهم، مع أن أي دوران من دون زاوية المئة والثمانين درجة لن يكون كافياً لتجاوز الهوة السحيقة التي تفصل خطاب أطراف الأزمة الحالية .