خالد شوكات

-1-
تسري على الشعوب تقريبا القواعد نفسها التي تسري على الأفراد, ومن ذلك أن الشعوب كما الأفراد تماما ليست معصومة, وأنها قد ترتكب أخطاء في حق نفسها قبل غيرها, وأن هذه الأخطاء قد تكلفها كثيرا, وقد تلحق بمصالحها الكبرى أضرارا ربما لا يسعفها الزمن القدرة على تصحيحها أو تلافي الندوب الغائرة التي قد تخلفها في الجسد والروح على السواء.
ولا تفلت الديمقراطيات العريقة من إمكانية الوقوع في الأخطاء الجسيمة, فما البال بالديمقراطيات الناشئة كالديمقراطية التونسية, التي لا شك أنها لم تهتد إلى الطريق الصحيح في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي, أكان ذلك بسبب تواضع خبرة الناخبين أو تواضع الثقافة الانتخابية والسياسية لغالبيتهم أو لهيمنة عقلية رد الفعل أوالتعاطف مع المظلوم أو الخضوع لسلطان الخطاب الديني الديماغوجي, غير أن الديمقراطيات العريقة عادة ما يكون بمقدورها تصحيح أخطائها لصلابة بناها المؤسساتية والتحتية, فيما قد لا تمنح الديمقراطيات الناشئة فرصا للتصحيح والمراجعة.
-2-
من منظور تاريخي, فإن ما انتهت إليه تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسية هوquot;ردة تاريخيةquot; بأتم معنى الكلمة, إذ تتناقض النتيجة مع المسار التاريخي, أكان وطنيا أو عالميا, فما كان مستحقا ومتوقعا لتونس التي انطلقت في مشروعها التقدمي التحديثي قبل ما يزيد عن مئتي عام, يتناقض جذريا, على مستوى الإطار والبنية والكنه والتوجه مع المشروع النكوصي الرجعي الذي تمثله الجماعة الإسلامية وحزبها الرئيسي حركة النهضة.
لقد تميز المشروع الوطني التونسي منذ تبلور ملامحه الأولى خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر على ركيزتين أساسيتين, أولاهما quot;عصرنة الدنياquot; بشقيها الدولة والشعب (تحرير الرق, عهد الأمان, دستور 1861, إصلاحات خير الدين, الحركة الوطنية والنقابية, البرلمان, الاستقلال...), وثانيتهما تجديد الدين من خلال ظهور اتجاه تراكمي لنزعة إصلاحية دعت إلى فتح أبواب الاجتهاد وتبنت آراء عصرية في الفقه والفكر الإسلاميين, تتوجت بأطروحات علماء ومفكرين إسلاميين من قبيل الشيخ الثعالبي والطاهر الحداد والشيخ الطاهر بن عاشور وغيرهم.
-3-
لقد عرفت تونس خلال القرنين الماضيين ثلاث ثورات قبل الثورة الأخيرة, ساهمت كل واحدة منها في تعزيز النزعة التقدمية للتاريخ الوطني التونسي, حيث ساهمت ثورة 1864 على سبيل المثال في ظهور المشروع الإصلاحي لخير الدين باشا في مجالات إدارة الدولة وسياسة المواطنين والحرص على إعادة بناء المنظومة التعليمية على أسس عصرية, بينما ساهمت ثورة quot;التراموايquot; سنة 1912 في إطلاق الحركة الوطنية التونسية, ابتداء بحركة الشباب التونسي, ثم الحزب الحر الدستوري, ولاحقا الحركة النقابية, والتي بلورت متضامنة توجهات المشروع الوطني المتطلعة إلى تحرير البلاد من ربقة المستعمر وتحرير الشعب من ربقة التخلف, وأخيرا فقد ساهمت ثورة 1952 في طرد المستعمر وبناء الدولة المستقلة على الركائز نفسها التي حددتها عبر الأجيال الحركة الوطنية التونسية.
وكان ابو الأمة والاستقلال الزعيم الحبيب بورقيبة أمينا في الالتزام بهذه الركائز على مستوى التطبيق, والبلاد تنتقل من طور quot;الجهاد الأصغرquot;, أي طرد المستعمر, إلى طور quot;الجهاد الأكبرquot;, أي تحقيق رهانات التنمية في الدولة والمجتمع. وقد تجلى الالتزام منذ الأشهر الأولى للاستقلال, حيث تحققت أماني رموز الإصلاح من قبيل أبوالقاسم الشابي والطاهر الحداد والشيخ الثعالبي وسواهم ممن توفوا, رحمهم الله قبل إدراك الاستقلال, في سن مجلة الأحوال الشخصية وعصرنة وتعميم ومجانية التعليم وبناء دولة المؤسسات والقانون والعمل الحثيث على اللحاق بركب الأمم الحديثة والمتقدمة.
-4-
لم تكن عمليات تحديث الدولة والمجتمع, تجري كما تحاول أدبيات المتعصبين والمتزمتين التصوير, في سياق منبت مستلب مقلد للغرب, بل كان ثمة وعي لم يفارق المصلحين التونسيين بتميز الشخصية الوطنية التونسية, وبأن العملية الإصلاحية يجب أن تستند وتجري بالتزامن مع حركة إصلاحية وتجديدية دينية, واختار الزعيم بورقيبة وفقا لهذه الرؤية أن يتلقب باسم quot;المجاهد الأكبرquot; في إشارة عميقة إلى مسؤوليته المزدوجة تجاه الدين والدنيا, وأن الإسلام يجب أن يؤدي دورا ايجابيا رافدا لمسيرة التنمية.
وقد حققت الدولة المستقلة طيلة ما يزيد عن خمسة عقود, تغييرات عميقة كمية ونوعية في مجالي مؤسسات الحكم وبنيات المجتمع, على نحو جعل من تونس مثالا يحتذى على مستوى الدول النامية في أكثر من قطاع, ودفع بالوقائع والأحداث في نسق تراكمي طموح إلى تفجر الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010, التي كانت بما لا يدع مجالا للشك quot;ثورة تنميةquot; لا quot;ثورة لا تنميةquot; كما حاول البعض الإيحاء لأسباب سياسية صرفة, ففي بلد لا يزيد سكانه عن 11 مليون نسمة, تخرج الجامعات فيه ما يزيد عن سبعين ألف طالب وتدفع بهم إلى سوق الشغل سنويا, وهو رقم بعيد حتى عما يتحقق في كثير من الدول المحسوبة على العالم المتقدم كاليونان والبرتغال مثلا.
-5-
ضمن هذا السياق التاريخي, رفعت الثورة التونسية شعارات حداثية وتقدمية بامتياز, كانت مرتبطة في جوهرها بطبيعة المشروع الوطني, وتمثلت بالأساس في أربعة مطالب هي quot;الحريةquot; في مقابل quot;الاستبداد وquot;الديمقراطيةquot; في مقابل quot;الديكتاتوريةquot; وquot;الكرامةquot; في مقابل quot;الحقرةquot; وquot;العدالة الاجتماعيةquot; في مقابل quot;الظلمquot; وquot;الفسادquot; وquot;التهميشquot;, ولم تكن من ضمن الأجندة الثورية مسألة الهوية التي حاولت الحركة الإسلامية فرضها لاحقا, لأن لم تكن في ذهن الثوار أبدا أن هويتهم الوطنية والعربية والإسلامية كانت في يوم من الأيام مهددة أو مستهدفة.
وإذا ما حكمنا هذا السياق التاريخي في تقدير ما كان متوقعا حصوله, فإن التصور أن الديمقراطية الناشئة التي تأسست كنتيجة رئيسية لفعل الثورة التونسية, كان من المفترض أن تدفع إلى السلطة باتجاهات تتمثل في خصائص المشروع الوطني بالإضافة إلى تطلعات لتدارك مواقع الخلل التي ظهرت على تجربة الدولة المستقلة, خصوصا في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة, بدلا من تلك الاتجاهات التي اجتمعت على إنكار أسس المشروع الوطني واستندت إلى مرجعية فكرية وسياسية كافرة كليا بمرجعية هذا المشروع, بل لعلها تكاد تكون كافرة بالدولة الوطنية نفسها.
-6-
إن وقوع تونس تحت حكم الإسلاميين لا يمثل فقط إيقافا لمسار من التطور التاريخي الواثق في اتجاه بناء مجتمع حديث ودولة عصرية, إنما هو بمثابة محاولة للسير عكس تيار التاريخ وتهديد عميق وشامل لمكتسبات نوعية مهمة استثمرت فيها جهود وطنية جبارة طيلة القرنين الماضيين, وبدل أن يتركز النقاش الوطني بعد الثورة على كيفية تحقيق أهداف الثورة في التنمية والتشغيل وبناء النظام الديمقراطي, تحول إلى نقاش حول الأسس والركائز الحداثية والتقدمية والليبرالية التي أقيمت على أساسها الدولة والمجتمع الوطنيين.
لقد وصلت إلى الحكم في تونس خلال الأشهر الماضية جماعة دينية سياسية ذات مواقف مثيرة للشكوك والريبة, ليس من مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات فحسب, بل من كل المظاهر الجميلة والخلاقة التي تميز الحياة العصرية والحقيقية وفقا لما انتهت إليه قافلة التاريخ الإنساني, من قبيل الفنون والآداب والإعلام والإبداع والثقافة, بل إن كثيرا من أهل الحكم التونسي الجديد لم يحضروا ربما في حياتهم المديدة عرضا مسرحيا أوفيلما سينمائيا أومعرضا للفنون التشكيلية أوحفلا موسيقيا, ليس بسبب انشغال أوضيق في الوقت, إنما لتقدير بأن هذه الصنوف من الفنون والإبداعات رجس من عمل الشيطان.
وبخلاف النزعة التجديدية والإصلاحية التي ميزت المدرسة الدينية التونسية, فإن نزعة الجماعة الإسلامية الحاكمة في تونس متصلة بالمدارس المشرقية الإخوانية والسلفية, وهي مدارس إحيائية نكوصية في اتجاهها العام, الأمر الذي يفسر تعامل هذه الجماعة المهادن والمتواطئ في غالب الأحيان مع الجماعات الدينية التي تتبنى العنف اللفظي أوالمادي وسيلة ولا تؤمن بالدولة الوطنية والنظام الديمقراطي وتكفر الآخر المختلف عنها في التوجه الفكري والرؤية الدينية.
-7-
إن وصول حزب سياسي لايزال في حقيقته جماعة دينية, تقوم فيها العلاقة بين الرئيس الشيخ والأعضاء المريدين على أساس بيعة, وليس بالمقدور الحصول على عضويتها إلا لمن تتوافر فيهم شروط خاصة من بينها قدر من الالتزام بأداء الشعائر وإقامة العبادات, أمر لا يتفق مع السائد من الأعراف والتقاليد في الأنظمة الديمقراطية, وهو أشبه ما يكون في حصوله بوصول حزب هايدر في النمسا أوحزب فيلدرز في هولندا أو حزب لوبان في فرنسا إلى السلطة, وهو احتمال quot;كارثيquot; بالنسبة الى مجتمعات تلك الدول, لما تمثله مشاريع هذه الأحزاب من تهديد للقيم والأسس والركائز التي أقيمت عليها ديمقراطيتها.
إن حكم حركة النهضة لتونس لا يمكن أن يمثل إلا quot;حكما شاذاquot; يهدد أسس الدولة التونسية الحديثة ويتناقض مع ركائز المشروع الوطني ويشكل ردة حقيقية على المسار التاريخي لهذا البلد العظيم الذي مادام رمزا إلى تطلع العالم العربي والإسلامي لربح رهانات التنمية والتحديث والتجديد والاجتهاد والإصلاح والعصرنة, ولن يكون هذا الحكم إن طال, لا قدر الله ,إلا عملية تخريبية لجميع تلك المكتسبات التي مادام افتخر غالبية التونسيين بأنها ميزت مسيرة دولتهم ومجتمعهم وإنسانهم.