عبد الملك بن أحمد آل الشيخ
يدور اليوم في ساحات التواصل الاجتماعي في السعودية خصام وجدال غير خصب حول مفهوم التحديث وماهيته. حيث وصل الأمر بين المتجادلين ذروته ليبحث في مسائل ذات جذور دينية أو اجتماعية عميقة، وفي كل جولة يخرج الطرفان المتنازعان خاسرين في أغلب الأحوال دون تحقيق مكاسب حقيقية، ودون أن يحاول أي من الطرفين تجاوز موقفه المتصلب.
فدعاة التحرر يصفون الطرف الآخر بالتخلف وعدم القدرة على التكيف مع المستجدات ومتطلبات المرحلة، ولكنهم في نفس الوقت يخسرون قاعدة شعبية كبيرة كون المجتمع محافظا ومتدينا بطبعة، خاصة حينما يتسلل إلى صفوفهم بعض الذين يجدون في تبني دعوات التحرر من التقاليد والتمرد على الثوابت الدينية والاجتماعية والسياسية قناعا يخفون وراءه عجزا حقيقيا عن تقديم رؤية واضحة للمجتمع الذي يريدونه وأسلوب الحياة فيه. أما الطرف الآخر فهو أيضا يخسر، كونه أسرف في المحافظة إلى درجة عدم القبول بأي جديد، في حين أن المرحلة تتطلب تفاعلا إيجابيا يتناسب مع تحديات العصر ومتطلباته، بعيدا عن العزلة والانكفاء على الذات.
إذن، الطرفان المتخاصمان يخسران، كونهما دخلا في معركة غير عقلانية بعيدا عن تطلعات الأغلبية الصامتة.
فالتبني المفرط من قبل البعض لبعض مفاهيم التحديث واستخدام مصطلحات غريبة على المجتمع السعودي دون أخذ الاعتبارات الدينية والسياسية والاجتماعية يعد تهورا غير مقبول، وخللا في فهم التغيير والتحديث، كما أن الرفض القاطع لها من قبل الطرف الآخر يعد تعجلا لا مصلحة منه. فبدلا من الحوار الموضوعي للوصول إلى قواسم مشتركة يقبل بها الجميع حول تلك المفاهيم وصلاحيتها للتطبيق في مجتمع مسلم ومحافظ كالمجتمع السعودي؛ تحول إلى جدل ولجة، وكما قيل لو أن النجاح والفلاح في المجادلة بقوة الصوت والصراخ لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه كما في المثل laquo;العربة الفارغة أكثر جلبة وضجيجا من العربة الممتلئةraquo; وإنما يكون النجاح بالحجة والهدوء والاحترام المتبادل، لذلك ليس من المتوقع الخروج بثمرة إيجابية من هذا الجدل، وإن لم يغير مساره فسوف يتحول إلى قطيعة فكرية تزيد من حمى التصنيفات السائدة في المجتمع، مما يساهم في تفريخ التطرف لدى طرفي النقيض، فينعكس سلبا على مسيرة الحوار العقلاني المطلوب في هذه المرحلة، والتي نحن أحوج ما نكون إليها في مسيرتنا التنموية.
إذن الأزمة هي أزمة لغة بين الطرفين، واللغة ليست فقط كما ينظر إليها في التفكير الدارج بأنها أداة من أدوات الاتصال عن طريق التبادل اللفظي، لكن اللغة التي نقصدها هنا هي القدرة على فهم أنفسنا وفهم المخالفين لنا، بل وفهم العالم أجمع من حولنا، فالإبداع في اللغة العربية أو التحدث بلغة أجنبية لغير الناطقين بها لا يعني القدرة على فهم الطرف المقابل المراد محاورته، بل لا بد من التعرف على طريقة تفكيره للوصول معه إلى قواسم مشتركة مما يحسن لغة الحوار والتواصل لتحقيق الهدف السامي المنشود من الحوار وهو الإثراء المعرفي التراكمي وتلاقح الأفكار للإسهام في تنمية فكرية متوازنة ومستدامة بعيدة عن الإفراط والتفريط، وأن لا يكون الهدف من الحوار هو التشفي وتصفية الحسابات، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي أم الفكري.
إننا مطالبون بأن نعيد الروح إلى لغة الحوار ووضعه في مساره الصحيح بعيدا عن الاستخفاف بالثوابت وعن عسف النصوص لتخطئة الآخر أو التلاعب بالألفاظ مع لجة في الخطاب لتحقيق مكاسب هي أقرب للذاتية منها للمصلحة العامة، فالتعصب الفكري وضيق الأفق والإثارة السلبية تحت ذريعة حرية الرأي، والتي هي أقرب إلى فوضى الرأي منه إلى حريته على حساب الدين والوطن، إنما هو ترسيخ للانحراف عن المفهوم الصحيح للحوار العقلاني وضوابطه، سواء أكان من المنظور الشرعي والأخلاقي أم من المنظور الغربي لمفهوم حرية الرأي كما يريد له البعض أن يكون!
التعليقات