عبدالمحسن جمعة

ألم أكن يوماً ساذجاً إلى درجة أن أصدق أن الولايات المتحدة الأميركية ترفع لواء حرية الإنسان والدفاع عن حقوقه، وأهمها حقه في الحياة لوجه الله بعيداً عن خدمة مصالحها، ولكنني كنت مؤمناً بأن لديها الحد الأخلاقي الأدنى لحمل ذلك الشعار، حتى رأيت رد الفعل الأميركي تجاه القضية السورية وما يحدث من مجازر وتصفيات عرقية بينما واشنطن تقول إن الوضع في سورية لم يصل إلى حد بالغ السوء يستدعي الإجراءات الفورية!
وكذلك لم أكن غبياً لأصدق أن الإعلام الأميركي وهوليوود ليسا في قبضة اللوبي الصهيوني والاستخبارات الأميركية، ولكنني كنت أعتقد أن هناك هامشاً لتناول القضايا الإنسانية حتى لو خالفت مصالحهما إلى أن تابعت كيف يغطي الإعلام الأميركي وتتفاعل هوليوود مع القضية الإنسانية السورية بكل تجاهل ولا مبالاة، ولحسن الحظ فإنني أقمت فترة من الزمن في الولايات المتحدة في عام 2010 أثناء تفاقم قضية دارفور التي نفخت فيها أميركا وإسرائيل من أجل الضغط على السودان من المجتمع الدولي ولتشتيت جهود الحكومة السودانية حتى تحقيق الهدف الأميركي- الإسرائيلي في تقسيم السودان.
في تلك الفترة (2010) كانت الصحف وكل شبكات التلفزة الأميركية تبث تقارير مزعومة عن إبادة عرقية في دارفور وعمليات اغتصاب وترحيل جماعي لسكان المنطقة، وكلها أخبار سماعية بالنقل الشفوي عبر وكالات وجمعيات أميركية وأوروبية غير معروفة وغير موثوقة وبدون أدلة دامغة وصور، وما كان يبث من صور وأشرطة فيديو كان عبارة عن مجموعة لاجئين في الصحراء دون صور بحجم ما يقع الآن من وقائع ومقارنةً بما ينقل من صور مروعة من داخل سورية يومياً، وفي تلك الأثناء كان اللوبي الصهيوني والـسي آي إيه يصنعان زخم الرأي العام ويحركان نجوم هوليوود أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك وآخرين أمام السفارة السودانية في واشنطن، بينما النجم جورج كولوني يجمع التبرعات ويذرف الدموع على فتيات دارفور المضطهدات!.


وفي المقابل وقبل أسابيع قليلة عدت من الولايات المتحدة بعد إقامة امتدت لأكثر من ثمانية أسابيع، والمؤسف أن خبر مذابح سورية وجثث الأطفال والقصف الصاروخي وشهادات الفتيات الموثقة بالصوت والصورة عن اغتصابهن وقتل ذويهن لا تحتل أي صدارة في الشبكات الإخبارية الأميركية وبالكاد تستعرض في 30 ثانية وسط الملفات الإخبارية الأخرى، والصحافة مهتمة بتغطية المناورات السياسية بين واشنطن وموسكو حول الملف السوري بعيداً عن الجانب الإنساني، ولم تلفت هذه المآسي الإنسانية نظر مشاهير هوليوود لتكون قضية تشغل بالهم! وباختصار فإن ذلك مرجعه إلى أن إسرائيل تريد أن يستمر نزاع سورية إلى ما لا نهاية وحتى تُمسح مقدرات سورية أو يبقى ويستمر نظام الأسد الابن الممتد من الأسد الأب الذي أمن الهدوء والسكينة لحدودها على مدى أربعين عاماً مضت.
واشنطن تبرر موقفها الرسمي والمخزي إنسانياً، بأن ما يحدث في سورية هو نزاع أهلي برعاية دولة عظمى هي روسيا، بينما الواقع يقول أيضاً إن ما حدث في دارفور كان مناوشات قبلية محدودة، وبين قبائل متناثرة في الصحراء، وتم خلاله حماية نظام الخرطوم من دولة عظمى ودائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي هي الصين الشعبية، ومع ذلك استمرت إدارة أوباما في الضغط الدولي ولم تتراجع.
الحقائق تقول إن كل اللئام قد اجتمعوا على الشعب السوري ليستمر ظلمه وتعذيبه وتقتيله، وما يحدث فضح أميركا ومرجعيتها الإنسانية والحقوقية بشكل مخزٍ، بل والعالم ككل العاجز عن حماية السوريين، ولكن رجال سورية سيأخذون حقوقهم بأيديهم وبإرادتهم الحديدية، وسيوضحون للعالم أمراً مهماً وهو أن كل منظماته وآلياته القانونية في الألفية الثالثة هي ناقصة وبلا فائدة، خاصة عندما تعجز عن حماية صبية في حمص التي تقصف منذ أكثر من 22 شهراً، وكذلك عندما يفشل كل المجتمع الدولي ومنظماته في أن يحمي البشرية من الجرائم المروعة التي ترتكب في الشام، كما أن تراجع واشنطن الذي بدأ يظهر بشكل جلي في عهد الرئيس باراك أوباما لا يؤهلها أبداً أن تستمر قائدة للمجتمع المتحضر مع استمرار فاجعة الشعب السوري الإنسانية.