مصطفى الكاظمي

منذ شهور والحديث عن قرب اندلاع الحرب الأهليّة في العراق لا يتوقّف. فالتحذيرات والمخاوف امتدّت وتعاظمت منذ اللحظة الأولى لاندلاع التظاهرات السنيّة في 21 كانون الأول/ديسمبر 2012. لكنها لم تبدأ مع تلك التظاهرات، بل انطلقت منذ لحظة إكمال القوات الأميركيّة انسحابها من العراق نهاية العام 2011 وبالتزامن مع اندلاع أزمة صدور مذكّرات اعتقال بحقّ نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي.

بإمكاننا اعتبار العام 2012 عاماً لترسيخ دعوات الحرب الأهليّة، ليس فقط من قبل المحرّضين عليها عبر تحريضهم على العنف الطائفي، بل أيضاً من قبل معارضيها عبر تكرارهم المبالغ فيه لطروحات الحرب، وذلك إما لتخويف الأهالي منها وحثّهم على انتخاب قوائم سياسية معيّنة وإما للحصول على مكاسب سياسيّة في غمرة أزمة سياسيّة طاحنة ما زالت مستمرّة منذ ذلك الحين.

والسؤال الواجب طرحه اليوم في العراق، مفاده: quot;هل العراق حقاً أمام أبواب الحرب الأهليّة من جديد؟quot;.

أما الإجابة عن مثل هذا السؤال فتتطلّب استدعاء جملة من العوامل أهمّها على الإطلاق أن الحرب الأهليّة ذات المنحى الطائفي حدثت بالفعل في العراق بين عامي 2006 و 2008، وقد انتهت إلى قناعة عامة بأن استخدام السلاح لن يقود بأية حال إلى إيجاد حلول للأزمات، وبأن نتائج الحرب الأهليّة لم تدعم أي من أطرافها وإنما دعمت الأطراف التي تصدّت لها.

من المؤكّد أنه كان لتواجد القوات الأميركية في تلك المرحلة أثر واضح في إخماد الحرب الأهليّة، وذلك من خلال المتغيّرات الإستراتيجيّة التي أقرّتها الإدارة الأميركيّة على المستوى العسكري في العراق بداية العام 2006 ومن بينها زيادة عديد القوات وفتح أبواب التعاون مع العشائر السنيّة ودعم الجيش الحكومي لتنفيذ عمليّات تطهير واسعة في شوارع المدن أطلِق عليها تسمية quot;صولة الفرسانquot;.

ويمكن القول بشيء من اليقين أن الفراغ الذي تركته القوات الأميركيّة في العراق بعد العام 2012 لم يكن على مستوى التواجد الفعلي على الأرض وحسم المعارك. فالتواجد الأميركي العسكري ما بين 2009 و 2011 كان أقل حضوراً على الأرض بعد إقرار اتفاقات الإنسحاب من المدن، لكن الوجود الفاعل للاعب الأميركي كان في داخل حلبة الصراع المحليّة، من خلال أداء دور الوسيط حيناً أو فارض الحلول بين المتصارعين أحيانا أخرى. وهو يُعتبَر من بين أهم العوامل التي أحدثت استقراراً أمنياً نسبياً وتوافقاً سياسياً في الحدود الدنيا.

هل ظهرت متغيّرات على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني في العراق ما بين نهاية الحرب الأهليّة في العام 2008 واليوم ، تبرّر القناعة بانفجار الصراع المذهبي من جديد؟

نظرياً، لا يوجد تغيير باتجاه الأفضل ولا باتجاه االأسوأ في حياة العراقيّين العاديّة. كذلك لا يوجد أثر بالغ وكبير لأي حدث عميق يمكن أن يسهم في تكريس التوقّعات بحرب أهليّة جديدة، حتى على المستوى الأمني. فبصرف النظر عن تصاعد نسب أعمال العنف أو تراجعها بين شهر و آخر، فإن هذه الأعمال والاعتداءات الإرهابية استمرت طوال هذه السنوات وإن كانت قد تصاعدت بشكل لافت في النصف الأوّل من العام 2012 وتضاعفت خلال الشهور الماضية من العام 2013 الجاري.

ولعلّ المتغيّر الأبرز الذي حدث هو خارجي بالدرجة الأولى، وهو اندلاع الصراع المسلّح في سوريا وتحوّله إلى بؤرة استقطاب مذهبي طال المنطقة. هو صراع إرادات يكاد يشمل القوى الرئيسيّة في العالم، وقد كان له أثر بالغ في زيادة جرعة القناعة بإمكان تحوّل العراق إلى سوريا الجديدة بعد أن تحوّلت سوريا قبل عامين إلى عراق العام 2006.

ولا يمكن الافتراض بأن العامل الخارجي وحده قادر على تفجير صراع مذهبي بكلف مرتفعة في العراق. لكن يمكن الجزم بأن هناك مصالح لأطراف داخليّة مختلفة دينيّة وعشائريّة وسياسيّة ترتبط بأجندات خارجيّة بشكل أو بآخر، وهي مستعدّة للدفع بالبلاد باتجاه الحرب الأهلية.

بدورها، لم تكن طروحات تشكيل الإقليم السنّي جديدة. لكن الجديد فيها أن أطرافاً داعمة لتشكيل هذا الإقليم، ربما تختار المواجهة الدامية لفرضه على الأرض، وذلك في وجه أطراف شيعيّة لم تنجح في احتواء الأزمة كما يجب. فهي أصرّت على قراءتها في حدودها السياسيّة، وأغفلت الدلالات الاجتماعيّة والدينيّة والتاريخيّة والصراعات الإقليميّة الكبيرة التي تجعل القراءة السياسيّة في نطاق صراع الداخل مبتورة وغير مجدية. وفي النتيجة وصل الأمر الى تعميق شعور مكوّن اجتماعي رئيسي في العراق مثل العرب السنّة، بالتهميش والإقصاء وعدم الفاعليّة داخل حدود بلادهم.

نعم، قد يكون العراق في خضمّ تهديدات باندلاع quot;حرب أهليةquot; جديدة، لكنه ليس على حافتها ولا يقترب منها كثيراً، وإنما يصارع للبقاء على مسافة منها.

قد تكون دورة العنف العراقيّة غير مكتملة حتى الآن، وربما لم يكتمل نضوج القوى السياسيّة العراقيّة بعد ولم تصل الى آليّة تضمن لها قدرة الحوار وحلّ الأزمات. لكن الشارع العراقي غير مستعدّ لمثل هذه الحرب المكلفة اليوم، فلديه نماذج قريبة جداً عن مآسيها وخسائرها، ولن يكون مستعداً لتقديم تضحيات من أجل زعماء حرب مغامرين

المونيتور