طيب تيزيني
يمثل «المجتمع السياسي» على الصعيد النظري، واحداً من المكتسبات الكبرى التي حققتها المجتمعات الحديثة، خصوصاً في القارتين الأوروبية والأميركية. وإذا استنبطنا من ذلك المصطلح أحد مكوناته البنائية، وهو المأْسسة المشتقة من «المؤسسة»، وجدنا أنه يُفضي بنا إلى حقيقة المجتمع الحديث متمثلة في كونه مدنياً في خصوصيته، وديموقراطياً في آلياته، ومؤسسياً في تركيبته، وعقلياً في ذهنيته، وحداثياً في تاريخيته، وعلمانياً في مرجعيته.
وإذ ينضبط المجتمع بتلك الضوابط، فلأن أفراده ينطلقوا منها كي يشكلوا وحدة إنسانية قابلة للعيش المشترك، رغم أن هناك خصوصيات كثيرة للأفراد والجماعات، لكن دون أن تدخل في البنية العامة المشتركة بينهم. ها هنا تتضح المعادلة العامة التي يستمد منها المجتمع المعْني وجوده المكوّن، بالمعنى السوسيولوجي، من وحدات أسرية وجهوية ومدنية وجيلية وفئوية وطبقية وشعبية وقطرية وقومية.. إضافة إلى ما يمكن أن يكونوا عليه ضمن أطراف محلية وخارجية وعالمية.
&
إن مجتمعاً قائماً على تلك المكونات والأركان يمكن أن يؤسس «وحدة حضارية» تتضح وتعلن عن نفسها عبر تنظيم مجتمعي تقف على رأسه سلطاته الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذ. وحين تضطرب الوظائف الثلاث المذكورة، وتبرز المكونات الصغيرة بانتماءات لا تقوم على عمومية المجتمع، يظهر الاضطراب؛ فبدلا من أن تحقق تلك المكونات أهدافها ووظائفها ليس من حيث هي، وإنما من حيث القوى الأخرى، تبرز مخاطر في وجه المجتمع.
تلك المخاطر برزت في المجتمعات العربية على مراحل، حيث ظهرت الطائفة بديلا عما هو مشترك بين الناس (أي الوطن والأمة)، فتحولت إلى عامل اضطراب في الوظائف والأدوار المنوطة بالجميع.
وتعمق ذلك واتسع، خصوصاً مع ظهور مطلب الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، فهنا كان الشرط الأول تفكيك المجتمع السياسي بأحزابه ومؤسساته السياسية في البلدين. وقد كلف ذلك الكثير، حيث أخذت الوحدة العتيدة تعيش حالة من الاضطراب جراء ضغوطات النظام الأمني المخابراتي، فتفككت دولة الوحدة. في تلك الظروف ظهر الشعور بالرعب واتسع في البلدين، مما دعا الناس للبحث عن أسس للأمان، فكانت الطائفة والمذاهب الدينية.
لقد غابت السياسة وظهر القمع، وتفككت عري المجتمع السياسي في كلا البلدين، فكان ذلك بمثابة تفريخ للقوى الظلامية الاستئثارية، مع الانحطاط في الحياة العامة اقتصاداً وثقافة وقضاء ومدرسة وجامعة. لكن سوريا استطاعت رأب الصدع لفترة قصيرة، عاد بعدها نظام الاستبداد الرباعي في السلطة والثروة والإعلام ومرجعية المجتمع. واستمر ذلك مع انقلاب 1963، واكتمل مع حركة 1970 واستمر، لكن المجتمع السوري حافظ على كثير من حيويته وأشواقه للأهداف الكبرى.
لقد ظهر عبء «الدولة الأمنية» ثانية، متوافقاً مع تصاعد الطائفية والاستبداد الشمولي. لكن ما يُراد له أن يظهر في النهاية منتصراً (وهو التقسيم الطائفي لسوريا)، اتضح أنه غير محتمل مع انتفاضة سوريا من أجل الحرية والعدالة والتحديث. فسوريا بهذه الانتفاضة تستعيد عملية التأسيس للمجتمع السياسي. وهذا بالذات ما أثار القوى الظلامية والاستبدادية، هنا كما في مناطق مجاورة أخرى (مثل إيران)، حيث حدث ما لم يكن قابلا للتفكير فيه، وهو التدخل في سوريا لكبح انتفاضتها. إن انتصار هذه الأخيرة قد يكون كفيلا بتصفية النزوع الطائفي البغيض، وذلك في سباق المواجهة المركبة لظاهرة «داعش» ومثيلاتها وعبر التأكيد على ضرورة وحدة القوة الوطنية التنويرية الديمقراطية، وعبر إنجاز مهمات المجتمع الديمقراطي.
&
التعليقات