أمينة شفيق

&

& منذ أن شهدت مصر موجة التطرف والإرهاب والعنف فى العقد السبعينى من القرن الماضي، تلك الموجة التى تصاعدت حتى عقده التسعيني، تعالت الأصوات من الداخل كما من الخارج تقدم التفسيرات والتحليلات لهذه الموجة التى طالت دماء المصريين والسياح وأضرت باقتصاديات البلاد. بعض هذه التفسيرات أعادت السبب إلى إفتقاد مصر للديمقراطية والحريات العامة والخاصة التى تساعد على تفتح وتبادل الأراء والتوجهات والتيارات السياسية والاجتماعية المتنوعة وتحدث بينها التفاعلات الفكرية التى تؤسس بذاتها الآلية الطبيعية لعدم تواجد التنظيمات السرية، وبالتالى تيار التطرف والإرهاب وأشكال العنف الذى كان يمارس.


كما تعالت أصوات أخرى تعيد أسباب وجود تيار التطرف والإرهاب والعنف إلى الفقر الذى يجبر البشر على الانصياع للمعونات الوقتية التى يتلقونها من افراد هذا التيار أو للانصياع لفكرة ان هذا التيار سيحقق للفقراء العدل الاجتماعى الذى يفتقدونه من النظم السياسية التى تحكمهم. وبالتالى يمكن أن يكونوا ظهيرا جماهيريا لهذا التيار، يدافعون عنه ويتعاطفون معه ويتحولون إلى رصيد أساسى لعضويتهم.

كما تعالت أصوات من فريق ثالث تعيد الأسباب إلى حالة البطالة التى تحيط بالشباب وتجعله يتذمر ويحتضن أفكارا مناهضة ورافضة لكل ما هو موجود ثم يستكين لأى إغراء مالى يمكن لتيار التعصب والإرهاب والعنف أن يقدمه له. كما تعالت تفسيرات، وكانت أغلبها من الداخل المصرى والعربي، تعيد الأسباب إلى الأزمة الفلسطينية التى يعانى شعبها من الاحتلال والقهر الإسرائيليين المتزايدين والواقعين على الشعب الفلسطينى وإلى عدم وجود آمال مستقبلية لحلها حلا عادلا.

ومن هنا كانت معظم الأسباب من جانب تلك التفسيرات تتجه إلى السياسات العامة التى تنتهجها النظم المحلية السياسية. وفى كل الأحوال لا يمكن أن نلغى الاشارات الاجتماعية التى كانت ترد فى هذه التفسيرات القادمة من الخارج أو المترددة فى الداخل. نحن نعترف أننا نعانى من وجود شريحة كبيرة من الفقراء الساعين إلى العدل الاجتماعي. كما لا ننكر أن الشباب يشكلون أعلى نسب المتعطلين المصريين كما أن البطالة مشكلة إجتماعية كبيرة تحتاج للحلول. كما نعترف أن الديمقراطية وقيمها لم تكن تمارس فى المجتمع المصرى بشكل صحى يساعد على التعبير والتنظيم والحركة المحاطة بالحريات الخاصة والعامة التامة. كنا نعرف جميعا أن بلداننا تعانى من أزمات إقتصادية وإجتماعية وسياسية قد تكون من أسباب إنتشار أفكار التطرف، كنا نراها ولا زلنا، أنها هى المولدة الهامة للعنف وللإرهاب. هكذا كانت التفسيرات عن أسباب وجود التعصب والعنف والإرهاب فى بلادنا. وهى تفسيرات كانت دائما ما تتجه إلى الداخل الذى يحتاج إلى التغييرات الشاملة التى تحقق الديمقراطية والحريات العامة والخاصة والعدالة الاجتماعية والتطور الإقتصادى الذى يعالج البطالة فى صفوف الشباب. والذى يجدر بنا أن نشير إليه هو أن العلاج الإقتصادى المقترح من المنظمات المالية الدولية، كان يتجه دائما إلى المزيد من الخصخصة ومن نشر المشروعات الصغيرة المتوسطة بغض النظر عن الظروف الداخلية المصرية ذات الخصوصية بسبب تطورها الاقتصادى والاجتماعى خلال العقود السابقة لهذه الأزمة. ولم تكن هذه المؤسسات على دراية بكل الجوانب المصرية التى تشكلت على مدار عقود وقرون مضت.

فالتحليلات الغربية لم تعترف أبدا أن هذه الموجة من التعصب والإرهاب والعنف التى بدأت فى سبعينات القرن الماضى كانت الموجة الثانية التى تصيب مصر فى القرن العشرين. لم تعترف أن الموجة الأولى كانت فى أربعينات ذات القرن وأصابت الجالية المصرية التى تعتنق الديانة اليهودية وكما طالت دور عرض سينما وقضاة وحاولت إصابة مكتب النائب العام حتى أصابت رئيس وزراء مصر ذاته. كانت هذه الموجة تجرى فى ظروف سياسية عامة تتسم بمساحة من الحريات العامة والخاصة تسمح بالمناطحة الفكرية بين التيارات. كان بها فقر وجهل ومعاناة جماهيرية لا تحصل على العناية اللازمة من الحكومات المتتالية. ولكن كان التعصب ضد الآخر قد بدأ يزرع فى الأرض المصرية ثم ينمو فى صفوف شرائح هامة من الشعب المصرى وهى الطبقة الوسطى بشرائحها وخاصة شريحتها الصغرى. هذا التعصب الذى لا يمكن أن نعيده إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى المجتمع المصرى وإنما لابد من الإعتراف بأن التعصب هو فى الأساس قضية ثقافية تعنى بالعقل والوجدان الوطنى المصرى التى كانت تتمايز به هذه الفترة التاريخية بالاعتراف بالآخر وبالتعايش مع التنوع بشكل عام على أساس من قيمة المواطنة فى الأساس. نذكر ذلك الآن مع عدم إنكار وجود مشاكل إقتصادية وإجتماعية قديما وحديثا.

وعندما نعود إلى التحليلات الخارجية السابق ذكرها فلن نجدها بشكلها ومضمونها وحجمها فى الغرب. فالغرب لا يعانى من ذات معدلات الفقر أو البطالة وبالقطع لا يعانى من تراجع الحريات العامة والخاصة. فالفارق الأساسى بين الغرب وبين بلد كمصر هو فارق فى درجة التطور الاقتصادى والاجتماعى والسياسى وكذلك الثقافى العام. ومع ذلك ظهرت بيانات جديدة تجهض جانب من التحليلات الغربية التى كانت تذكر. لقد صدرت من المركز الدولى لدراسات الجمود الفكري، ومركزه لندن، أن جهاز المخابرات المركزية الأمريكية يقدر عدد الشباب الغربى المنخرط فى المنظمات العربية التى تمارس الإرهاب والعنف يصل إلى 31 ألف شاب وشابة أوروبيين. والغريب فى بيانات جهاز المخابرات المركزية الأمريكى أن عددا لا يستهان به من هؤلاء الشباب ليسوا من أصول عربية، وأنهم من أصول غير إسلامية.

فى الجمهورية الفرنسية تم التعرف على شابين فرنسيين، أحدهما من أصول برتغالية مسيحية قد تم تجنيده فى منظمة داعش. كما تعرفت السلطات الفرنسية على شاب فرنسى آخر تنتمى أسرته المسيحية إلى منطقة نورماندي، تلك المنطقة الفرنسية التى تأتى فى التاريخ الحديث على أنها المنطقة التى يفخر بها الفرنسيون على أساس أنها المنطقة الساحلية التى بدأ فيها تحرير فرنسا من الاحتلال النازي. وقد إعتنق الشابان الإسلام فى سنوات مراهقتهما ثم إنتقلا بعد ذلك إلى منظات متطرفة إرهابية، ثم انتقلا إلى منظمة داعش. كانت هذه مجرد أمثلة. . وما أكثرها. هنا لا بد أن نقف وقفه مع كافة التحليلات السابقة التى صدرت مع الموجة الثانية من الإرهاب فى مصر تلك التى إستمرت تحديدا منذ يدايات السبعينات لتستمر حتى التسعينات. نقف الوقفة لنعيد دراسة ما حدث بعد فض إعتصامى النهضة ورابعة العام الماضي. نسأل هل حرق البعض من الكنائس المصرية لأن هذا البعض كان من الفقراء أو من المتعطلين؟. هل حوصرت الكتدرائية المرقصية فى العباسية بعد فض الإعتصامين من قبل الفقراء أو المتعطلين؟ ولماذا كانت معظم الحرائق فى محافظتى المنيا وبنى سويف للمتلكات المسيحية سواء الأرثوذكسية أو الانجيلية أو الكاثوليكية؟

لا يمكن أن نعيد كل تلك الأحداث الواضحة إلى مجرد الفقر والبطالة وتراجع الديمقراطية والحريات العامة والخاصة. لابد أن نضيف العامل الثقافى الذى لعب دورا أصيلا فى زرع التعصب فى صفوف الشباب وجعله يعرف البشر على أساس من دينهم أو عرقهم أو نوعهم الاجتماعى متجاهلا عن عمد أن المواطنة هى القيمة الأساسية لعلاقات البشر فى الوطن الواحد. فى غفلة من الزمان قفزت القضية الثقافية بكل جوانبها إلى الغرب المتطور وتمكنت من أعداد من الشباب وجعلتهم ينسون كل تلك المباديء التى نادوا بها فى ستينات القرن الماضى وهى معاركهم مع حكوماتهم حول حقوق الإنسان وكرامته. باتوا الآن يقطعون الرؤوس ويتفاحرون بذلك. ألم تتبلور المشكلة فى جانبها الأكبر كمشكلة ثقافية؟
&