فؤاد مطر

رمضان جديد وليس أخيراً على ما هو مألوف منذ أربعة عقود عربية إسلامية، لا يخشى مسلمون يتربعون على قمة الحُكْم بفعل فاعلين من خارج ديار الأمتيْن ربهم، ولا يردعون أنفسهم عن الفعل الشرير في حق البلاد والعباد احتراماً للشهر الفضيل، وبدل أن يكون المدفع الوحيد المجاز إطلاقه في بعض هذه الديار هو المدفع الذي يعلن حلول ساعة إفطار الصائمين، فإن هؤلاء البعض المتربصين على قمة السلطة يتركون المجال على حاله للنفس الأمَّارة بالسوء، وهكذا يمتزج دخان القذائف بدماء خلق حرَّم الله قتلهم أو حتى إلحاق الأذى بهم بمفردات كلام يدمر بدل أن يعمِّر وفتاوى توقظ مشاعر تتسبب بالفتنة بدل أن تهدي إلى سواء السبيل.

لقد اعتادت ثلاثة أجيال عربية - إسلامية على عهود من الحكم ونماذج من الحكام يستعذبون إبقاء بلادهم في أجواء الاحتراب. وحتى إذا حلت مناسبات روحانية مثل مناسبة الشهر الفضيل، فإنهم لا يغتنمون المناسبة، فيعيد هذا الحاكم أو ذاك النظر في عناده، ويستغفر ربه عما اقترفه في حق البلاد والعباد، ويكفر ما استطاع التكفير عن ذنوب اقترفها بفعل العناد وعدم الإصغاء إلى النصح يأتيه من حاكم مصلح لا يبغي من النصيحة التي يسديها سوى مرضاة رب العالمين.

في السبعينات عندما كان لبنان ساحة احتراب لم يحدث أن انبرى الذين يفتون إلى إصدار فتاوى تحرم الاقتتال في شهر الصوم أو عند حلول ذكرى عاشوراء بل وتحرم القتل عموما. كما أن المرجعيات الدينية والمسيحية لم تفعل الشيء نفسه في المناسبات الدينية.

وحتى بعد المسعى الطيب المتمثل باتفاق «الطائف» الذي أوقف الاقتتال عند حد، وأنعش الشرعية التي كادت تتهاوى، فإن المرجعيات الدينية تتحدث في السياسة من دون إصدار الفتاوى والتحريمات التي تبقي الوطن في منأى عن التصدع، وتشير بصراحة إلى الرموز التي تعطل حق أبناء الوطن بأن يعيشوا في أجواء من الطمأنينة.

وكما في لبنان كذلك في سوريا وفي العراق نرى أن المرجعيات الدينية تتصرف بما يبقي الأزمة على حالها مشتعلة أو إلى المزيد من الاشتعال.

وبدل أن يكون الوضع المأساوي في سوريا والعراق والمرشح إلى أن يصبح مأساويا في لبنان، هو اللحظة الضميرية للحكم الإيراني لمناسبة حلول شهر رمضان الفضيل لكي يتصرف بما يوصي به الدين الحنيف، فإننا نرى أن هذا الحكم ينطق حتى بصمته أحيانا، تشجيعا للذين يعتمدون العناد أسلوب قيادة للبلاد، وبذلك تبقى المعالجة الخطأ هي السائدة، بدل أن يقرر هذا الحاكم أو ذاك أن الصيام باطل لمن يأمر طيارين بقصف أهداف مدنية أو يجيز لنفسه إصدار التوجيهات بإنزال أشد الضربات بحق معترضين أو مطالبين بحقوق مصادَرة.

وإذا كانت إيران الخمينية لم تفعل ذلك فكيف ستفعله إيران الخامنئية بالنسبة إلى العراق وسوريا، بحيث تمارس سطوتها المفروضة على نظامين قادا بلديهما إلى أسوأ حال.. فإلى المجهول كما هو ظاهر في المشهد الراهن.

ما زلنا في العشر الأوائل من رمضان. وما زالت رغم فداحة الأذى الذي لحق بسوريا البشر والحجر، هنالك فرصة أمام الذي عاند إعادة النظر قليلا أو كثيرا في عناده. وبالنسبة إلى الرئيس بشار الأسد، فإنه إذا ارتأى ومن دون أن ينتظر الموافقة من الطرف الروسي المورِّط والطرف الإيراني المسيِّر، الوقوف خطيبا لمناسبة ترؤسه يتحدث إلى الناس الذين تأذوا بغير لغة الماضي، وقال من الكلام الذي تمتزج فيه مفردات الاعتذار بمفردات النيات الطيبة مستلهما فيما يقوله أجواء الشهر الفضيل، وقال على الملأ إن الخيمة العربية التي طالما احتوت هموم سوريا واهتمامات شعبها تبقى هي الحل لهذا البلد الذي يجب أن يعود نجمة في سماء عربية وفاقية، وأن الرهان على حليفين لا يرتجى خيرا منهما نهايته الخسران، لأنهما في إغواء الحكم البشاري كانا كمن يبيع السمك في البحر أو يسوقان بضاعة انتهت صلاحيتها. وما يقال للرئيس بشار يقال أيضا للمعاند الآخر الرئيس نوري المالكي، الذي اقتبس الأسلوب البشاري في معالجة أزمة يبقى النظام في كلا البلدين هو المسؤول عنها. وكما أن الرئيس بشار لم يغتنم رمضانا من الرمضانات الثلاثة التي حلت في سنوات الأزمة، ويقرر في هذه المناسبة وقف القصف الذي انتهى تدميرا وقتلا ونزوحا وإحراقا، وفي ظل تنفيذ هذا القرار يدعو إلى الحوار على مساحة من التنازلات، فإنه اعتبر أو جعلاه يعتبر أن مثل هذا القرار هو نقطة ضعف، ومضى شاهرا براميله، محققا بذلك الغرض للحليفين، ذلك أن الحل بالتراضي يعني الخسران للهوى الإيراني والروسي، ولأنه كذلك فإن الطرفين واصلا تزيين الأمور للرئيس بشار، فما عاد كمسلم يستحضر مناسبات للتهدئة في زمن الأزمات مثل المناسبة الرمضانية يقلب فيها صفحة اختلط السواد فيها بالأحمر القاني بأمل الكتابة على صفحة بيضاء يشجعها الأشقاء العرب ويرتضيها أبناء الشعب السوري. يبقى أن وقفات رمضانية إنسانية وذات دلالات تحدث في الوقت الذي يترك المشهد السوري وتوأمه المشهد العراقي في النفس بالغ الأسى، وكيف أن حليفي النظامين يبيعان ويشتريان من وراء ظهر المعاند السوري والمعاند العراقي، ويتطلعان إلى مكاسب يجنيانها ثمن رفع اليد عن الرئيس بشار الأسد وتوأمه الرئيس نوري المالكي. ومن هذه الوقفات أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي طالما أسدى من النصح الكثير ماضيا وخلال الأزمة لأهل الحكم في سوريا وفي العراق ومن قبل أن تستفحل الأزمة، ارتأى في مناسبة الشهر الفضيل أن يرفع بعض الضيم عن المتضررين من أبناء الشعب العراقي بمن فيهم النازحون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية فوجه بتقديم مساعدات عبر منظمات الأمم المتحدة بقيمة نصف مليار دولار. هكذا يفعل منذ بات هنالك لجوء ونزوح سوري. وهكذا يفعل في كل رمضان مع أبناء الشعب الفلسطيني، وهكذا استبق رمضان ببضعة أيام تجاه مصر. وهذا هو الفرق بين حاكم يؤدي في المناسبة الرمضانية المباركة ما يوحي به الكِتاب والأحاديث، وبين حكام يفعلون عكس ذلك تماما.
&