محمد خروب

ربع قرن على اعادة توحيد المانيا (3/10/1990) بعد احداث دراماتيكية عاصفة، أسست لمرحلة ظن كثيرون انها ستكون بالفعل نهاية «التاريخ»، فاذا بالعالم ينحدر الى اوضاع اكثر سوءاً وتوتراً، لا يُخطئ الذين يصفونها بأنها شبيهة بتلك التي سبقت اجواء الحرب العالمية الثانية، رغم «التطور» الذي طرأ على العلاقات الدولية وارتفاع نسبة الذين يرفضون عسكرة هذه العلاقات، ويدعون الى تكريس ثقافة الحوار والتخلي عن مشاعر الحنين للاستعمار والهيمنة واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها وانتهاك سيادتها, وإلى التزام ميثاق الأمم المتحدة ودائماً في عدم السماح لأي دولة مهما عظُمت قوتها او توفرت على ترسانة عسكرية مهولة وحديثة وضاربة، ان تكتب جدول اعمال الأسرة الدولية او ترتهنها لمصالحها تحت مزاعم وتُرّهات متهافتة, من قبيل ما تُروّجه لنفسها الولايات المتحدة وتصفه بـ «الاستثناء الاميركي».

ما علينا..

في مناسبة ربع القرن الذي انقضى على استعادة المانيا لوحدتها ونجاح الرهان المكلف اقتصادياً واجتماعياً، الذي غامر به المستشار السابق هيلموت كول، رغم الكثير من التحذيرات بل والرفض الصريح من قِبل احزاب وشخصيات وهيئات ووسائل اعلام ألمانية «غربية» كون وحدة كهذه لن يُكتب لها النجاح، وان المانيا الغربية (كما كان اسمها حينذاك)، لن تكون قادرة على إنجاح تجربة «الصهر الوطني» وتجسير الهوّة الشاسعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافيا وبنى تحتية وخدمات ومرافق عامة بين المانيا الغربية المتقدمة وتوأمها الشرقي المتخلف بفعل السياسات الشيوعية الفاشلة (على ما دأبوا وصفه والتذكير به وما تفوح به من رائحة استعلاء وتشفٍ وغرور)..

اختبار النتيجة (كما هي الأمور عليه.. اليوم)، جاء لصالح انصار الوحدة الذين ما يزالون يتذكرون تلك الهتافات المدوية التي اطلقها الالمان في تلك الأيام قبل ربع قرن «ألمانيا أُمنّا.. بلد واحد»، ولم يعد ثمة احد يتحدث عن شرقي وغربي او يفاخر بالتمايز الذي كان البعض يدّعيه لصالح حكومة بون (الغربية) كم يتم اليوم..التنافس في الانتخابات او السجالات السياسية او الاجتماعية بانخراط الجميع فيها، حتى اولئك الذين يرفضون «أسلمة» اوروبا ويُبدون كراهية متصاعدة تجاه اللاجئين وينضوي معظمهم تحت راية المنظمة العنصرية المعروفة باسم «بيغيدا»، انطلقوا من مدينة درسن (وهي بالمناسبة دُمرت بالكامل خلال الحرب الكونية الثانية وتقع جغرافِيّاًّ في شرق المانيا) فيما المستشارة (الشرقية المولد والتنشئة) انجيلا ميركل ترفض خطاب هذه المنظمة وتعتبره خطراً على المانيا، وكانت مواقفها من مسألة «اللجوء» الاخيرة، اشارة لا تخلو من دلالة حول طبيعة النظرة او القراءة السياسية التي تحكم وجهة نظر هذه المرأة التي سجلت حضوراً لافتاً في المشهدين الاوروبي والدولي، بل ثمة من يرى ان مواقفها (في الجوهر) تتعارض والسياسات الاميركية المُعلنة وهي اقرب الى موسكو (نسبياً) منها الى مواقف واشنطن والى حد كبيرمن باريس وكانت تداعيات الأزمة الاوكرانية، دليلاً على مدى تخوف المستشارة من ان تدفع بلادها «ثمن» اي مواجهة روسية اميركية في اوكرانيا، ما بالك مواقفها الحازمة بل والمُتشددة ازاء ازمة الديون اليونانية واصرارها على «تمرير» اقتراحها بقبول اثينا او حكومة تسيبراس خطة التقشف المُعدّلة او الانسحاب من منطقة اليورو.. وكان لها ما أرادت.

لا يُقصد من كل ماسبق تزكية مواقف ميركل او اعتبارها اكثر انسانية من عواصم الغرب الاستعماري وسياساته النيوليبرالية التي تقوم على انهاك الشعوب الفقيرة وشلّ ارادتها وارتهانها لمصالحها، بقدر ما هي مناسبة للحديث عن «فكرة» الاتحاد الاوروبي والمقاربات الناضجة او العملية او المسؤولة, التي تطرحها قيادات وعواصم ومؤسسات هذا الاتحاد, للمحافظة عليه وتمكينه من الصمود ومعالجة الاختلالات والاهتزازات والخلافات التي تعصف به بين حين وآخر, وهو المُتأثر الاكبر من الصراع الآخذ في الاحتدام بين موسكو وواشنطن, كما كانت الحال مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قبل انتهاء الحرب الباردة.

للسيدة ميركل عبارة لا نحسب ان احداً من الانظمة العربية التفت اليها او احتفى بها او على الأقل تأمل في معانيها السامية والنبيلة رغم ان المانيا المُوحدة هي التي تقود القاطرة الاوروبية وهي العامود الذي يسند «خيمته» ورغم ان المانيا (الموحدة ايضاً) صاحبة اكبر واقوى اقتصاد في اوروبا وهي عضو مؤثر في مجموعة الثماني (قبل ان تُستبعد روسيا منها بعد ازمة اوكرانيا)..

لكنها (المانيا دائماً) لا ترى ضمانة لاستمرار «وحدتها» إلاّ في اطار الوحدة الاوروبية «إن المانيا الموحدة (لن تدوم) إلاّ في اوروبا موحدة».. قالت ميركل.. فهل قال عبارة كهذه او أقل منها وبنسبة 90% احد من العرب, منذ ان غادر جمال عبدالناصر هذه الدنيا حتى الان؟

ليس غريباً او مفاجئاً والحال هذه، ان يتردد اسم المستشارة ميركل في هذه الأيام كمرشحة «قويّة» لنيل جائزة نوبل للسلام، وليس علينا سوى انتظار يوم غد لنعرف ان كانت ستفوز بها ام ان غيرها سيحظى بها، لكن يكفي هذه «المرأة» انها تسبق وتتقدم كثيراً على معظم رجالات السياسة في العالم.