إميل أمين

بعد تسعة أعوام من سيطرة تيار المحافظين على مقدرات الحياة السياسية في كندا، ها هو الجناح الليبرالي يعود بقوة إلى المشهد بعد فوز حزب الأحرار الكندي بالانتخابات البرلمانية فوزًا كاسحًا، لتسقط بذلك قلعة حصينة لتيار اليمين في أميركا الشمالية، كانت الباقية بعد غياب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن عن الساحة السياسية.


تسع سنوات امتلك فيها ستيفن هاربر ناصية المحافظين الكنديين، تبدت فيها ملامح الراديكالية اليمينية في كندا بشكل أو بآخر، وكان من أهم علاماتها تراجع كندا عن الإقدام على تنفيذ تعهداتها بشأن اتفاقيات محاربة تغير المناخ، الأمر الذي يجمعها مع عتاة الجمهوريين المحافظين في الولايات المتحدة في مجلس الشيوخ. كما اتسمت بمشاعر الرفض في بعض الأحايين للمعالم الثقافية والتراثية بل والدينية لكثير من الأقليات المهاجرة، وفي المقدمة منهم العرب والمسلمون، وارتفاع صوت الشقاق والفراق عاليًا تجاه إشكالية الحجاب والنقاب.


وفي الوقت ذاته، لم تتوقف سياسات هاربر عند حدود دعم إسرائيل فقط، كما هو الحال تقليديًا في كندا، بل تجاوز الأمر ذلك حين رفع الرجل المساندة «درجة»، على حد تعبير البروفسور الكندي فريدريك بوالي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ألبرتا.


عشية فوزه، عبر جاستن ترودو عن آمال وأحلام الكنديين حين قال: «نهزم الخوف بالأمل، ونهزم السخرية بالعمل الجاد»، مضيفا: «لقد دحر معظمنا فكرة أنه على الكنديين أن يقنعوا بالقليل، وهذا ما تفعله السياسة الإيجابية».


يعكس فوز ترودو عدة مشاهد، في المقدمة منها أن الحياة النيابية والديمقراطية والحزبية السليمة توفر حاضنة متميزة للنضج السياسي، تُمكن شابًا كنديًا من النضج السياسي خلال سبعة أعوام، ليصل إلى الكرسي الأول في البلاد عبر انتخابات شارك فيها 68.5 في المائة من الناخبين، وهي أعلى نسبة منذ أكثر من عشرين سنة لمشاركة الكنديين في الاقتراع، والعهدة هنا على الراوي «هيئة الانتخابات الكندية».
هل يعني ما جرى أن إعصار الليبرالية يجتاح كندا؟
الشاهد أن «الوسطية» ربما كانت هي مدخل ترودو إلى قلوب وعقول الكنديين، كوضع متميز بين تطرفين، أقصى اليمين، وأقصى اليسار. فالشاب ترودو استطاع أن يقدم «حالة» بأكثر من شخص، حالة للتجديد الذهني للحياة السياسية الكندية.


هل من اهتمام عربي وإسلامي خاص يجب تكريسه لهذا الشاب الذي يتولى اليوم رئاسة وزراء دولة مهمة بقدر كندا؟
الثابت أن تصريحات ترودو الأولية تؤكد أن الرجل يمكن أن يضحى جسرًا طيبًا وقنطرة فاعلة، حال أُحسن التعاطي معه سياسيًا، لا سيما أن رؤيته الجديدة لكندا بعيدة كل البعد عن سياسات الإقصاء والعزل اليمينية.
يقر ترودو بفضل الأقليات في بلاده: «..نحن نعرف من داخلنا أن من بنوا كندا أناس أتوا من كل أنحاء العالم، واعتنقوا جميع أنواع الديانات، وانتموا لكل الثقافات، وتكلموا بكل اللغات». ناهيك عن ذلك، فإن رئيس الوزراء الشاب كان قد تعهد بالانفتاح على السكان الأصليين لكندا، الذين تعرضوا لظلم تاريخي.


تساؤلان جوهريان يطفوان على السطح الآن: «هل سيكون طريق ترودو معبدًا وجاهزًا للإقلاع بسهولة؟ ثم، وربما هذا هو الأهم، ما هي انعكاسات هذا الفوز على العلاقات الكندية مع الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص؟».
بداية، يمكن الإشارة إلى أن هناك قطاعين كبيرين وفاعلين جدًا ربما لا يبهجهما فوز ترودو، الأول هو جماعة شركات النفط، التي أعربت عن تخوفاتها من سياسات ترودو الخاصة بالبيئة، وما يمكن أن يصيب الصناعات النفطية الكندية من خسائر بسبب اهتمام الرجل بالبيئة، وهذا ما سيدركه ذلك القطاع بعد مشاركة رئيس الوزراء الجديد في مؤتمر باريس المقبل، قريبًا جدًا، عن المناخ.


بينما القطاع الثاني يتصل بشركات إنتاج الأسلحة، أي المجتمع الصناعي العسكري، وإن كان أقل قدرة من نظيره الأميركي.. فترودو وعد، على سبيل المثال، بانسحاب الجيش الكندي من التحالف الدولي ضد «داعش» في سوريا، وقد كان أول قرار اتخذه بالفعل بعد إعلان فوزه، وأبلغ به الرئيس الأميركي في أول اتصال هاتفي بينهما، هو انسحابه من برنامج تطوير الطائرة المقاتلة «F35»، وهذا يعني خسارة أميركية محتملة لحليف مهم.


جاستن ترودو عنوان لمرحلة جديدة من الأمل، مرحلة يكرس فيها لتعليم أبناء القوميات في البلاد مبلغ 2.6 مليار دولار، ويسعى لزيادة المعونات الكندية الإنسانية للعالم الخارجي، لا سيما أفريقيا، كما يعمل على تخفيض الضرائب على الطبقة المتوسطة وزيادتها على الأثرياء، ويخطط لاستقبال 25 ألف لاجئ من سوريا، واستثمار مئات ملايين الدولارات من أجلهم.
هل قرأنا هذا الفوز عربيًا بعين ثاقبة؟.. وهل أعددنا رؤية سياسية تقدمية للتعاطي مع الشاب الجديد الذي ظهر في حارتنا؟.. أم أن آفة حارتنا النسيان أبدًا ودومًا؟!
&