طيب تيزيني

يمر الآن العالم العربي، وغيره من العوالم وشعوبٍ أخرى متعددة من غير العرب، بمراحل تاريخية هي في غاية التعقيد والاضطراب والعنف، ربما بأقسى صيغِه في تاريخه المديد. وهذا يُفصح عن نفسه بأشكالٍ فيها من دواعي الرعب والخوف من انقطاع حبال الأمل وتجلياته، ما يدعو للاعتقاد بعودة شرعية «الاستشراق الحديث»، الذي دشنه وأسس له الفيلسوف الألماني هيجل، على مدى الفترة الزمنية الخصيبة فكرياً التي عاشها (من 1770 إلى 1831). وذلك لأن هيجل كان قد أسس ثنائية «الوحي والعِلم المفتوح». الوحي في قلب العالم وفي سياق العالم هذا نفسه، أي العالم الغربي المعْني.

أما الأمر الذي يدعو إلى التأمل العميق والنافذ فيفصح عن نفسه في أن بداية الأحداث العظمى الراهنة عربياً وإقليمياً أو في بداياتها الفارقة حتى الآن وبكل وحشيتها وأسئلتها الكبرى، إنما هي -كما يبدو- حدثٌ غير مسبوق، ويفرض نفسه على العالم برمته بأقسى التعبيرات والدلالات. فالحديث عن ثنائية الوحي والعلم المفتوح تفصح عن نفسها لدى الفيلسوف هيجل بصفتها ذات حدّيْن اثنين هما المطلق والنسبي، دون أي لقاءٍ يجمع بينهما. فكأن الرجل الكبير في مذهبه الجدلي ورؤيته الجدلية، يجعل من ذينك الحدّين انقطاعاً تاماً في حقلين مختلفين اختلاف الواحد منهما عن الآخر، مما يستدعي القول التالي، الذي سينشأ لاحقاً تحت صيغة أكثر تدقيقاً في الحقل المشخّص العيني، وهو: الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان.

&


بيدَ أن هذا الحقل الأخير يتعثر، في حال الدفاع عنه، أي في حال الاعتقاد بالاحتفاظ بصفائه المصطلحي. ذلك أن الغرب، العولمي الراهن تحديداً، يبدأ تقريباً مع «داعش» في تعفّر وجهه إبّان ظهوره، حيث راح ذلك الأخير يعلن عن وجوده في الغرب ذاته، ناشراً فيه الرعب والاضطراب والقلق. ويبدأ ذلك خصوصاً بعد أن وضع كارل ماركس يده على علامة عظمى من تحولات الغرب الحديث، وبعد أن راح تلاميذه في استكشاف المصائر والمآلات الجديدة في سيره. أما الأول فقد أفصح ربما عن أخطر ما آل إليه الغرب حتى الآن، حين أطلق مقولته الهائلة المروعة والقائلة: كلما ارتفعت قيمة الأشياء (وقد ارتفعت حقاً)، هبطت قيمة الإنسان، وهذا الهبوط الذي وجد تجسده خصوصاً فيما بيّنه ميشال بوغنون في كتاب «أميركا التوتاليرتارية» حين أعلن على رؤوس الأشهاد أن: «العولمة هي السوق المطلقة بإطلاق»، فهي حقاً كذلك «إنها الحال الذي أفضت حقاً إلى واحدٍ من تعبيراتها الوحشية»، ونعني بذلك «داعش»، أي الكائن المتوحش حيث تتم استعادته بشحمه ولحمه، وإلا، فكيف نفسر ظهور قاتل البشر بالساطور، وبالحرق، وحز أرنبات الأنوف بالسكاكين! فـ«السوق المطلقة بإطلاق» والمعيشة غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، كفيلةٌ بتفكيك الوجود عبر العودة إلى العدم.

هكذا تشتعل الحالة الفلسطينية منذ عام 1948 على كل ما يذبح الفلسطينيين. وهكذا، تشتعل الحالة السورية منذ الرابع عشر من مارس 2011 على قتل الرجل وتخدير الطفل واستباحة المرأة وحرق الثلاثة جميعاً هم والمنزل الذي يأوون إليه. إنه مشهد «القيامة» الجديدة، التي لا عودة لها! بل لعلنا نفضّ الشيفرة التي نشأت مؤخراً بين روسيا وإسرائيل، والتي أعلن عنها وعما يضبط اللوحة الكونية الجديدة، وذلك عبر ما قدّمه العالم الفرنسي «جاك أتالي» وغيره في حوارٍ جرى مؤخراً على شاشة تلفزيونية بينه وبين عالمٍ سياسة واجتماع آخر. فقد كان ثمّة سؤالٌ انطلق من العلم، وهو التالي: هل يتمكّن العلم من إنقاذ العالم؟ أم هل يكون ذلك ممكناً على أيدٍ أخرى؟

لقد جرى التأكيد على أن العلم يمكن أن يغير العالم، مدللاً على ذلك بأن «تعديلاتٍ جينيةً» طالت 74 حالة بشرية. وفي هذا السياق أعلن أن شركة «غوغل» تصرف أموالاً طائلة هائلة عبر مراكز للدراسات والبحوث العلمية من أجل الإمعان في هذا البحث الهائل في حضوره، أي في حقل الوعد بأن تغيير العالم يمكن أن يتم مع تطور العلم. وها هنا نقف أمام حالين اثنين أن العلم والموت كلاهما يستطيع التغيير. ولكن، بأيدي من يدمّر الوجود وأيدي من ينتج الوجود؟! يكفي في هذا السياق أن نعلن أن رجالاً من أمثال نتنياهو الإسرائيلي، وبوتين الروسي، ومن يقع في موقعهما من الإيرانيين وغيرهم، من الذين يسعون إلى ابتلاع سوريا، كي نصل إلى أن حالة استثنائية فريدة تطرح نفسها على سكان العالم برمتهم.

ولكن قبل أن نضع النقطة الأخيرة يكفي أن نشير إلى أن ما يحدث في سوريا –وهي ضميرنا ومستقبلنا في عالم كلي آمن- سيبقى مؤشراً لما قد يحدث على الصعيد الكوني. إن التحول الجديد لن نستطيع الآن أن نبت بشأنه، ولكن الآمال الفاعلة بعمق الإرادة الإنسانية ستسهم في إضاءة الإجابة على هذا السؤال.
&