&هالة مصطفى
&
ستظل الحرب على «داعش»تثير الكثير من القضايا الشائكة الفكرية والثقافية والحضارية التى تتجاوز جوانبها السياسية والعسكرية، تلك القضايا التى ندرجها إجمالا تحت مسمى التنوير والنهضة. فتبنى مثل هذه التنظيمات أيديولوجيات شديدة التطرف باسم الاسلام لتبرير الأعمال اللانسانية التى تقوم بها عبر العالم، يضع السياق العام وطبيعة الثقافة التى تنتجها وتسمح لها بالاستمرار محل تساؤل كبير، وليس أدل على ذلك مما حفلت به الصحف الأجنبية والدوائر السياسية الغربية طوال الأسابيع الماضية من تناول هذا التنظيم من تلك الزاوية تحديدا، بكل ما تحمله من مقابلة صارخة بين الثقافتين الغربية والشرقية - و بشكل أدق الاسلامية - تقود حتما الى صدام حضارى.

فبشكل غير معتاد استدعت معظم هذه الكتابات عصر النهضة الأوروبية أو عصر الأنوار، كما يُطلق عليه، الذى جعل التقدم حقيقة راسخة عندهم، بينما ظل العالم الاسلامى متخلفا عن هذا الركب منغلقا على ثقافة جامدة بل مُصدراً للتطرف والارهاب، وهو ما انعكس بدوره على الأوساط السياسية، ففى أوروبا تُحقق التيارات اليمينية، التى تتخذ مواقف واضحة ضد المهاجرين ومعظمهم من المسلمين، صعودا ملحوظا وتتعالى أصوات أخرى لمنع استقبال مزيد من اللاجئين وهم من المسلمين أيضا أغلبهم من سوريا، وفى الولايات المتحدة يطالب المرشح الجمهورى للرئاسة دونالد ترامب بمنع دخول المسلمين عموما الأراضى الأمريكية. صحيح أنه تم الرد على بعض هذه الأصوات من داخل الدوائرالغربية ذاتها حفاظا على المصالح الاستراتيجية التى تربطها بالشرق الأوسط ، إلا ان ذلك لايمنع أنها تشكل قناعة عامة سائدة وإن إقتضت الاعتبارات السياسة تغليفها بلغة دبلوماسية. إذن العالم - سواء بشكل مباشر أوغير مباشر- بات يُحمل الدول والمجتمعات الاسلامية جانبا كبيرا من المسئولية عن هذا التطرف. فماذا كان رد فعلنا؟

كما هو متوقع لم يتجاوز الأمر رد الفعل النمطى الجاهز سواء الاكتفاء بالقول إن هؤلاء (أى المتطرفين) لايمثلون صحيح الاسلام، وإن نظرية صدام الحضارات لا تعدو كونها مؤامرة على العالم الاسلامى، وبالتالى فالخطوة المطلوبة لا تزيد على تخصيص الأموال وإعداد الكوادر لقوافل الدعوة لتصحيح صورة الاسلام فى الغرب، أى مازالت الصورة وليس الواقع هى التى تشغلنا، والواقع يشير إلى أننا أمام تحد داخلى ومعركة فكرية لم نكسبها ونهضة سعينا اليها ولم ندركها وتنوير إدعيناه ولكننا لم نؤمن به. لأن السؤال الجوهرى هنا هو لماذا حقق عصر النهضة الأوروبى أهدافه وتقدم بثبات فى حين فشل مشروع النهضة العربى الاسلامى؟

الإجابة ببساطة دون الدخول فى كثير من التفاصيل التاريخية، أنه لم يكن لدينا عصر كامل ممتد للنهضة، كانت هناك لحظات مضيئة لها روادها ورموزها، ولكنها بقيت استثنائية تعتمد على جهودهم الفردية المتميزة دون أن يُسمح لها بالاستكمال أوتحقيق تراكم يمثل تيارا عاما يسود عما سبقه، ولذلك عُرفت دوما بأسمائهم، فقديما ارتبطت حضارة الأندلس بإسم الفيلسوف الإسلامى الكبير ابن رشد، الذى كان لإسهاماته المتفردة تأثيرا كبيرا على التطور الفكرى والفلسفى فى أوروبا خاصة فى زمن العصور الوسطى، واستمرت أعماله تُدرس فى جامعاتها، ولكن على العكس كان الوضع فى وطنه، ففى حياته اتُهم بالكفر وأحُرقت كتبه وهزمته التيارات السلفية الرجعية بتواطؤ مع السلطة السياسية، حتى نُفى من بلاده وعندما حاولت الأخيرة أن ترد له اعتباره كان ذلك قبيل رحيله بفترة قصيرة. وانتهت سيرة ابن رشد ولم نحاول إحياء تراثه الذى أثرى الفكر الانسانى. وفى عصر محمد على مؤسس الدولة المصرية الحديثة فى بدايات القرن الـ19 نشأت حركة للنهضة بحكم البعثات التى أرسلها لأوروبا برموزها المعروفة من الطهطاوى الى محمد عبده، ولكن الذى بقى من أثرها لم يكن كافيا لإحداث نقلة نوعية ثابتة ومستقرة فعاد التعثر ورجعت الخطوات الى الخلف. وفى الحقبة الليبرالية التى يُؤرخ بها لرسوخ التحديث والانفتاح الثقافى والتواصل الحضارى مع العالم المتقدم، تعرض أهم رموزها لحملات من التشويه والاتهام بالتغريب وفى مقدمتهم طه حسين صاحب الريادة الثقافية فى التنوير، وكذلك كان الحال مع الشيخ على عبد الرازق بسبب عمله الجرىء «الاسلام وأصول الحكم»، الذى أنكر فيه أن يكون نظام الخلافة من الاسلام، وهو أشد ما نحتاج اليه اليوم فى مواجهة التنظيمات المتطرفة التى تبرر إرهابها باسم استعادة الخلافة الاسلامية.

هناك عشرات الأسماء الأخرى المرموقة التى سارت على نفس النهج وسعت للانتصار لقيم الحرية والعلم والعدل والتنوير عموما وقُوبلت بنفس الجحود، وكلها تُثبت كيف تفننا فى إهدار الفرص وتحاملنا على كل إبداع واجتهاد وتجديد وإصلاح، وأن السياسيين من مختلف العهود لم يكونوا أفضل فى نظرتهم وانحيازاتهم من بعض رجال الدين المتزمتين، وفى هذا السياق استوقفنى مقال للمثقف المصرى وجيه وهبة نُشر بجريدة المصرى اليوم (215/12/5)تحت عنوان «سخافة التاريخ»، يقول فيه (إن الزعيم السياسى سعد زغلول كانت له مواقف مخزية من على عبدالرازق فى قضية كتابه «الاسلام وأصول الحكم» وكذلك فى قضية طه حسين فى كتابه فى الشعر الجاهلى، وإن طلعت حرب الذى كان مع تحرير الاقتصاد لم يكن مع تحرر العقل، فقد كان موقفه من قاسم أمين وتحرير المرأة شديد التخلف والرجعية) ولا شك أن أهمية ما أورده الكاتب هنا تكمن فى كونه يمثل حالة مزمنة فى حياتنا الثقافية والسياسية. وليس بعيدا عن هذا المضمون مقال آخر للأكاديمى المعروف د. مأمون فندى، نُشر بجريدة الشرق الأوسط (2015/11/30) بعنوان «هل التطرف عارض تاريخى فى ثقافتنا»، وهو عنوان يقدم بنفسه إجابته، يثير فيه قضية جدلية شديدة الأهمية عن أسباب انحياز الدولة فى أغلب عصورها إلى عالم سيد قطب على حساب عالم طه حسين (والتشبيهان هنا مجازيان بالطبع).

باختصار، نحن فى حاجة إلى ثوة فكرية لمواجهة الإرهاب الذى يبدأ بدوره من الأفكار، وإلى انحيازات وخيارات مختلفة، وإرادة سياسية حاسمة، ودور واضح وملموس للمؤسسة الدينية، لمصلحة إعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر وتحديث الخطاب الدينى جوهر أى إصلاح أونهضة. ولكن كم مرة كررنا هذا الحديث وكم مرة انتظرناه ولكن شيئا لم يحدث، حتى بات أشبه بـ(انتظار جودو) وجودو هو اسم بطل أشهر مسرحيات صمويل بيكت رائد مسرح اللامعقول والتى تحمل نفس الاسم، ويرمز به إلى المُنقذ الذى ينتظره الناس لحل مشكلاتهم وأزماتهم ولكنه لا يأتى أبدا، ورغم ذلك يظل الانتظار فى حد ذاته يُولد أملا.

&