خالد الحروب

قبل حوالي ثماني سنوات كتبت مقالاً بعنوان «أموات يحكمون الأحياء» قلت فيه ان كثيراً من فقهاء الكتب الصفراء والذين ماتوا منذ قرون طويلة هم الذين يتحكمون في حياتنا المعاصرة ووعينا الراهن. يومها اعترض بعض الاصدقاء على اعتبار ان ما ورد في المقال كان قاسياً. اليوم وفي اللحظة «الداعشية» المقيتة التي نحياها تبدو الصورة جلية اكثر، وتتفاقم بشاعتها. جذور «الداعشية» تضرب بعيداً في ثقافتنا وعلينا مواجهتها بكل جرأة وشجاعة إن اردنا ان نقتلعها من اصولها، لا ان نحارب “داعش” وحسب. والخطوة الاولى في العلاج الطويل من «الداعشية» السرطانية التي عششت في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية هو الاعتراف بوجودها. «الداعشية» ليست «داعش» فحسب، فهذه الاخيرة إنما هي التمظهر الابشع للمرض القاتل. «الداعشية» هي الفكر المتطرف والمتعفن والإقصائي والاستئصالي الذي يمتد من المناهج المدرسية في معظم البلدان العربية، الى الفكر الديني النصي بسلفياته المتنوعة، الى إرتهان كل جوانب الحياة للشرعنة السلفية، متجسدة في انتشار فكر «الفتوى» و»ذهنية التحريم» التي تشلّ العقل والإرادة وتحوّل مئات الملايين من الناس إلى تابعين عميان لهذا «المفتي» المتوتر أو ذاك. علينا ان نعترف بأن التعاطف الضمني أو العلني مع «داعش» موجود وعميق، وربما لم يزحزحه بشكل قوي إلا الجريمة البشعة التي أقدم عليها التنظيم بحق الطيار الاردني معاذ الكساسبة. «كيف وصلنا الى هنا» هو السؤال الذي يجب ان لا يتركنا ننام، وكيف صار القتل والدم وإزهاق الارواح جزءاً من «ديننا ودنيانا»، نتجادل في مقدار الدم وكيفية الذبح وفي ما ان كان الحرق والتحريق يتم بإذن ولي الامر أم من دونه! حتى مؤسساتنا الدينية «المعتدلة» والتي تأخذ على عاتقها نشر «الوسطية» مثل مؤسسة الازهر ترد على خطاب «داعش» وممارسته المتوحشة بخطاب يضاهي الخطاب «الداعشي» توحشاً. بيان الازهر المُندد بحرق الكساسبة يُطالب بقتل «داعش» «وتقطيع ارجلهم وأيديهم من خلاف». إذن ننهل من ذات مربع الدم. نختلف حول من يحق له الإدعاء بكونه ولي الامر ومن يصدر قرار إزهاق الارواح وحرق الاجساد وتقطيع الاطراف. أما وأن الامر مسألة خلاف على من يحق له الإدعاء بولاية الامر، وبالتالي اصدار اوامر سفك الدم، فمن يستطيع ان يمنع ابو بكر البغدادي من التماحك بذلك الحق، كما مئات وآلاف غيره؟

&

بعد الاعتراف بمظاهر «التدعش» في حياتنا التي ظلت تنتشر كالوباء المدمر خلال العقود الماضية، علينا ان نستأصل الاصول والجذور الفكرية والثقافية والدينية لـ «الداعشية»، وعلى رأسها الفكر المتعصب ومناهج فقهائه الراهنين والقدماء. لنتأمل كيف لم يرجع مجرمو «داعش» الى النص القرآني أو النبوي في تبرير جريمتهم، بل ذهبوا الى ابن تيمية ليقتبسوا منه التالي في ختام توحش التحريق الذي قاموا به:

&

«أما إذا كان في التمثيل الشائع (في القتل والقتلى) دعاء لهم إلى الإيمان أو زجر لهم على العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع ...». هكذا تقعّر المُتقعّر قارئاً ما نقله عن تشدد ابن تيمية، فيما كانت صورة الحرق والتحريق تلتهم بوحشية فائقة جسداً اعزل يتلوى. لا يتبع مجرمو «داعش» ما أُوثر عن النص القرآني أو النبوي أو الراشدي في عدم قتل الاسرى، أو التمثيل بالموتى، ولا محاربة متصومع هنا، أو مترهبن هناك، بل وحتى التأنف عن إيذاء الشجر والنبات، فضلاً عن النساء والأطفال وغير المحاربين. ثمة تلذّذ بالدم وبالتفنن في القتل، ذبحاً، أو رمياً عن الاسطح، أو تفجير الرصاص في الرؤوس جماعة، ...، والآن حرقاً سينمائياً يدلل على اختراق التوحش كل أسقف التوقعات. لا يرى المتلذذون بالدم سوى الدم، وينقبون في تاريخ شاسع حوى كل شيء، كي يصلوا إلى مسوغ ما عبأوا به أصلاً. لم يصل الى «داعش» أيّ من نصوص ومصنفات مئات فلاسفة العرب والمسلمين الذين أسست أفكارهم لاستنارة أوروبا، لكن وصلتهم فتاوى القتل والدم والتشدد، التي تتحكم في مصائرنا نحن عرب ومسلمي القرن الحادي والعشرين، وتسيطر على مناهج تفكيرنا وتفرد فتاواها في طول وعرض مجتمعاتنا.

&

هكذا تتبدى الصورة كئيبة ومخيفة، كأن جحافل من العلماء والفقهاء الموتى، ممن كان لهم نصيبهم من الحضور والفاعلية في عهود مضت ويرقدون الآن في سلام منذ قرون خلت، لا يزالون أحياء وفاعلين بيننا. في كثير من الأحايين نراهم يشاركوننا النقاش والسجال، وجاهزين لمساعدة فريق من المتناظرين ضد الفريق الآخر. نراهم وقد أصبحوا جزءاً من «آليات» الجدل والسجال و»الإفحام» الدارجة في أيامنا هذه، حيث الإحالة الدائمة واللإنهائية إلى نصوص تراثية عتيقة، لا علاقة لها بالكتاب والسنّة، لكنها منقولة على ألسنة تابعين أو شخصيات مشهورة أو رواة أو مفسرين أو أئمة كانوا كباراً في زمانهم ومكانهم. الإقتباسات النصية والتشبث بالنقل معناه الفوري والمباشر تحييد العقل وإخصاؤه. وتُحاط تلك الإقتباسات وقائلوها بهالة من القداسة والتبجيل المفتعل ويتم الإرتقاء بها عن النقد والنقاش، بشكل لم يحلم به ولم يطلبه أصحابها الأصليون أنفسهم. فكلنا نعلم بعض التقاليد العميقة والرصينة عن كثير من الأوائل الذين اعتبروا ما قالوه وكتبوه رأيا من آراء، قد يحتمل الخطأ قدر إحتماله الصواب. كانت أدبياتهم موضع نقاش ونقد وأخذ ورد، وأحياناً إستسخاف من قبل الأنداد والمتنافسين.

&

ويستند كثير من الجدل الإسلاموي المعاصر إلى تلك النصوص ويسعى بجدية إلى شلّ أي إستخدام لتقصّ عقلاني، أي إستخدام العقل الذي كان ذات مرة مركز التفكير والتحليل والإبداع في تراثنا وحضارتنا. وما يبعث على الإحباط المتواصل في راهننا اليوم رؤية القسم الأهم من الجدل والسجال حول الحاضر والمستقبل مشلولاً بالعودة «الإلزامية» إلى التاريخ للملمة حطام الموروث الذي تتم ترقيته إلى درجة قريبة من القداسة. ما الذي يمكن أن تفعله تلك النصوص العتيقة الموغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني إزاء تحديات الحياة المعاصرة اليوم؟ ماذا بوسع عالم أو فقيه مهما بلغ علمه وعظُم شأنه عاش في القرن الثامن أو التاسع الميلادي أن يقدم لمسلمي القرن الحادي والعشرين؟ ماذا يمكن أن يُقدم ذلك الفقيه وقد عاش في عالم محصور في بعده الجغرافي والديموغرافي والتجربة الإنسانية العامة التي كان يقف عليها، للمسلم المعاصر الذي تنفتح حياته على عوالم بلا حدود، وآفاق بلا نهاية، ويواجه قضايا بالغة التعقيد كل واحدة منها تحبط جمهرة من فقهاء الماضي معاً.

&

لكن وطأة ثقافة الإقتباس منهم والإحالة عليهم، ورغم الصلة الواهنة لأولئك الفقهاء بحياتنا الراهنة، تجعلهم هم الذي يقودوننا ويوجهون على نحو كبير وخطير تفكيرنا وممارستنا. وهكذا تسيطر ثقافة علماء الأمس البعيد على ممارسة ومعاش أحياء اليوم. ويصير الأحياء مُتحكماً فيهم وفي حاضرهم ومصائرهم من قبل الأموات بطريقة سوريالية حزينة. لكن الإطار الأخطر لكل آليات الإقتباس والإحالة الماضوية تلك يكمن في خلع ونزع الشرعية عن الأفكار والممارسات والتوافقات الراهنة إعتمادا وإستنادا على تلك الماضوية، بما يحيل الحاضر والمستقبل معاً نتوءات زائدة على الأصل المُحافظ عليه – الماضي. أي فكرة أو ممارسة، خاصة إن كانت حديثة، في السياسة أو الثقافة أو الإجتماع أو الفن، عليها أن تبحث عن شرعيتها أولاً في تلك الماضوية، ثم تحصل على تصريح دخول الحياة عندنا. لا ينفع إن كانت قد أقنعت كثيراً أو قليلاً من الناس ورأوا فيها نفعاً هنا أو هناك، فإن أرادت أن تعيش في الحاضر أو تطمح لأن تروح إلى المستقبل فإن عليها أن تكتسب الشرعية من الماضي.

&

العزوف عن الإقرار الأولي بعمق التردي، والعزوف الموازي له عن الشروع في التفكير بأسبابه، وثيق الصلة بذهنية تسيطر عليها ثقافة إسترجاعية تحوم حول «المركزية المطلقة للنص»، والتي تصل حد الهوس، فيما تتحقق على حساب الإستدلال العقلي والفكر الحر. وأتعس ما في هذه الظاهرة هو أن هذه الثقافة الإسترجاعية واسترذالها للعقل والتفكير الحر متجذرة بعمق في النظام التعليمي في المدارس العربية والإسلامية. وربما صار من الممل تكرار القول إن التغيير في العقلية الإسلامية يبدأ من أحضان النظام التعليمي بكليته، أي إرساء نظام تعليمي يسمح بإعمال التفكير النقدي في الصفوف والبحث الحر. لكن ما علينا إلا أن نكرر ذلك مهما كان مملاً!
&