حسام عيتاني

تستحق تصريحات الشيخ بندر الخيبري، التي أنكر فيها دوران الأرض ووصول الإنسان الى القمر، قراءة بعيدة عن التهكّم والسخرية، ليس لصحتها قطعاً، فما من شيء صحيح فيها، لكن لتعبيرها عمّا يتجاوز الكلام الظاهر.

&

لا جديد في مواجهة العلم بالدين وبالآيات والنصوص المقدسة، على ما فعل الخيبري مستعيداً آراء شيوخ سابقين له. بل إن الإيديولوجيا بألوانها المختلفة، وقفت دائماً موقفاً ملتبساً من العلم. تؤيده حيث تظهر مصلحة حَمَلَتها، وتعارضه حيثما يتناقض العلم والإيديولوجيا، سيان كانت دينية أو عقلانية أو غيره. ويحفل التاريخ بشواهد على تداخل العلم والإيديولوجيا ومحاولات الثانية استتباع الأول. وشهيرة قصص كوبرنيكوس وغاليليو وبرونو، وصولاً الى رفض عدد من علماء الاتحاد السوفياتي السابق الاعتراف بنظرية آينشتاين في النسبية، لاعتقادهم بتعارضها مع المادية الجدلية.

&

ومعروف أن مفهوم «العلم المحض» تعرّض لهجمات شرسة رفضت وجوده، واعتبرته ملحقاً دائماً بمصالح الفئات المهيمنة سياسياً وثقافياً، وأن العلم لا وظيفة له خارج إطار السيطرة الإيديولوجية القائمة، وأنها هي التي تحركه.

&

نعود الآن الى كلام الشيخ الخيبري. يحاول الشيخ، الذي يبدو في الشريط الذي نشرته مواقع عدة (مثلاً «العربية.نت»)، متواضع الكفاءة في مجالي الدعوة والعلم معاً. فهو يكرّر ما قاله الشيوخ الأقدم، ويستعين بما يسميه أدلة من النص الديني، ويزيد على ذلك كلّه تفسيره لاستحالة وصول طائرة تقلع من الشارقة الى الصين في ما لو صحّت فكرة دوران الأرض. انصرف عدد من وسائل الإعلام الى إنكار ساخر لأقوال الشيخ، وخصّصت صحف، منها «الإندبندنت» البريطانية، فقرات عدة لشرح الخطأ العلمي الذي وقع فيه الخيبري – من وجهة نظر دينامية ودوران الغلاف الجوي مع الأرض وأثر الجاذبية والفوارق بين سرعتي الأرض والطائرة الخ...

&

النقاش العلمي مع من ينكرون دوران الأرض بالاستناد الى مقولات دينية، قليل الجدوى، ذلك أنه يحيل مباشرة الى الصدام بين ما جاء في النص المقدس، أو للدقة بين تأويل سطحي ومباشر، وبين حقائق العلم. ولنا في ظاهرة دعاة «الإعجاز العلمي في القرآن» شهادة على عبث استخدام الدين لتأكيد اكتشافات العلم، من جهة، وعبث الرد على الدعاة هؤلاء من جهة ثانية.

&

المضمر في كلام الخيبري أهم من المعلن. فالرجل يقول ليس بثبات الأرض واستحالة دورانها، بل إنه يكرّر ما ذهب إليه من أحرق برونو وحاكم غاليليو، ومن ثم من رفض مقولات داروين وهاجم طه حسين وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد: إن الاعتراف بالتطور وتغير الأحوال في مجال العلوم، سواء كانت تطبيقية أو إنسانية، وتناقض اكتشافات العلوم مع التأويلات الحرفية والمعتمدة للنص، يستدعي استدعاء آلياً الاعتراف بآنية الهيمنة والسلطة على المجتمع. بكلمات ثانية، ما رفضته محاكم الكنيسة وشيوخ المؤسسة الدينية من العلماء والكتاب الوارد ذكرهم، لم يكن اكتشافاتهم المجردة في مجال لا يعني «المؤسسة» كثيراً أو قليلاً، كعلم الفلك أو الشعر الجاهلي أو نظرية الدولة والمعرفة، بل التداعيات التي تصدر عن أسلوب في التفكير يبيح نقد الرؤية السائدة الى العالم وتوزّع السلطة فيه.

&

وما قاله الخيبري تعبير عن وفائه لوجهة نظر أوسع بكثير من الإصرار على «حقيقة» خاطئة علمياً. إنه يعلن تمسّكه ومن يمثّل، من جمهور ونخبة، برؤية الى العالم والدين والعلم واستطراداً الى المجتمع والسياسة، تأبى التغيير وتصرّ على استخدام النص الديني في غير مواضعه، على رغم فواجع هذا الإصرار التي نشهدها يومياً.
&