فهد عريشي

لم تكن الصين لتصنع مجدها الاقتصادي لو استمرت حربها الأهلية ونزاعاتها على السلطة، ولم يكن لأميركا أن تخسر المركز الأول لولا ذهاب أموالها في حروب عقيمة وأهداف عسكرية وسياسية طائشة

&


حذار أن تخطئ في الإجابة عندما يسألك أحدهم في المرة القادمة عن أقوى دولة اقتصاديا في العالم.. يجب أن تقول الإجابة الصحيحة فورا.. قلها بثقة ودون تردد "الصين".


البعض ما زال يعتقد أن أميركا ما زالت تتربع على عرش الاقتصاد الدولي، ولكن هذا كان قبل أن تعلن الأرقام الاقتصادية انتصار الصين وتسيدها لكرسي رئاسة الاقتصاد العالمي.


يقول الدكتور إبراهيم المهنا في كتابه "المنافسة على القمة وتحول القوة نحو الشرق" إن مستقبل أي دولة يعتمد على ثلاثة عوامل، الأول المصالح والتطلعات الاقتصادية، والثاني المقدرة العلمية والتعليمية والتقنية التي تجعل الدول أكثر مقدرة على المنافسة والتقدم، والثالث إدارة الدولة أو الإدارة الحكومية التي يجب أن تكون مرنة، منتجة وغير فاسدة. وأحب أن أضيف عاملا رابعا للعوامل الثلاثة التي حددها الدكتور المهنا في كتابه، وهو عامل السلام، فكلما سعت دولة إلى السلام كانت أقرب للتفوق والنجاح والقوة والنمو الاقتصادي، وإذا غاب العامل الرابع غابت العوامل الثلاثة قسريا.


وهذا ما فعلته الصين خلال العقود السابقة، فبعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1949 قامت على الفور بتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج وتعزيز الأمن والسلام، واستغلت طاقتها البشرية الهائلة لتوسيع مصالحها الاقتصادية وفتح أبوابها للشركات الدولية والمصانع بمختلف إنتاجها، وتطوير الجامعات والمناهج التعليمية وتوسيع شبكة التقنية، ورفع معدل إنتاج الإدارة الحكومية ومحاربة الفساد.


الصين التي كانت تعاني من الحروب الأهلية التي قسمت البلاد إلى معسكرات سياسية، وأجلت نموها وازدهارها الاقتصادي، قامت في عام 1978 بإدخال إصلاحات اقتصادية كبيرة على نظام السوق، فأدى ذلك لأن تكون أسرع اقتصادات العالم نموا، استمر هذا النمو السريع حتى أعلنت هذا العام تجاوزها ولأول مرة في التاريخ لكل اقتصادات العالم، تجاوزت أميركا وأوروبا، تجاوزت توقعات كل اقتصاديي العالم الذين تنبؤوا بأن تحتل المركز الأول ما بعد ميزانيات عام 2019 إلا أنها سبقت التوقعات وأعلنت مبكرا أنها الاقتصاد الأقوى في العالم.


بعد تفوقها الاقتصادي تتجه الصين الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز ثقافتها الصينية في العالم، فهي منذ عام 2009 أطلقت حزمة من البرامج الثقافية في كل دول العالم لتفعيل هذا الهدف وإنجاحه، ومن أهمها هو معهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية الذي تموله بكين والعروض الفنية التي تقدمها في 13 دولة بخمس قارات بالتزامن مع عيد الربيع الصيني، إلا أنها واجهت أزمة تسيس الثقافة وقوبلت هذه الأنشطة التي تقيمها الصين بقدر غير كاف من حسن النوايا، واعتبرها بعض السياسيين الغربيين وسائل صينية لتصدير قيمها وثقافتها.


تعاني الصين في تعزيز ثقافتها إلا أنها مستمرة في تحقيق نتائج مرضية في هذا المجال، خاصة في مجال استقطاب الطلاب الأجانب من كل دول العالم ومنحهم المنح التعليمية وتعليمهم اللغة الصينية، وهي تطمح إلى أن يكون عدد الطلاب الأجانب في الصين أكثر من 500 ألف طالب قبل حلول عام 2020، وقد قامت بعد تأسيس الحكومة الجديد بتعليم أكثر من مليون طالب أجنبي من أميركا واليابان وكوريا الجنوبية ومختلف دول العالم، مؤمنة بأن مبادرتها هذه تعزز ثقافتها وتوسعها وتجعل من هؤلاء الطلاب سفراء لها في كل دول العالم بطريقة غير مباشرة إثر نتاجهم العملي بعد التخرج ونسب الفضل إلى التعليم والثقافة الصينية.


تفوق الصين على أميركا لم يأت صدفة، بل هو نتاج سنين من السلام والعمل بصمت وتخطيط واضح وعلمي واستغلال لكل الطاقات المتوفرة وأهمها الطاقة البشرية الهائلة، لم تكن لتصنع الصين مجدها لو استمرت حربها الأهلية، ونزاعاتها على السلطة، ولم يكن لأميركا أن تخسر المركز الأول لولا افتعالها الحروب في بعض الدول وشن العمليات العسكرية الهجومية الضخمة وتكبدها خسائر اقتصادية جعلتها تقف عاجزة أمام الركود الكبير الذي اعترى اقتصادها في السنوات الأخيرة، وذهبت أموالها في حروب عقيمة وأهداف عسكرية وسياسية طائشة أدت لما نراه الآن في تراجعها إلى المرتبة الثانية بعد الصين، وهنا درس تاريخي للحضارات والدول، السلام هو المحرك الأساس للتفوق، الحرب هي الخسارة وحتى لو أعلنت انتصارك العسكري فإنه انتصار واهم يجرك إلى خسائر فادحة، كما نرى الآن في خسارة أميركا أمام الصين بعد أن استحوذت على عرش الاقتصاد العالمي طويلا قبل أن تسبقها الصين التي تربعت عليه بعملية سلام كبيرة انتصرت فيها، لأنها آمنت أن ازدهارها وتفوقها لن يكون إلا بعدم هدر طاقتها في حروب لا تعبر عن شيء سوى الجنون وعقدة النقص. تفوقت الصين وهي مؤمنة أن الثقة في الصمت.. في العمل.. في السلام.
&