عبد الوهاب بدرخان

كثرت الإشارات، غداة القمة العربية في شرم الشيخ، إلا أنها بعثت روحاً جديدة في العالم العربي، سواء بمباركتها "عاصفة الحزم" أو بقرار إنشاء قوة عربية مشتركة ولو بعضوية الراغبين فحسب. وفي كواليس القمة كان هناك تقويم مشترك، مع استثناءات قليلة، بأن العملية المستمرّة في اليمن نبّهت إلى أن العرب يملكون أوراقاً كثيرة أهملوها وفقدوا بمرور الوقت القابلية لاستخدامها. كانت النقاشات الجانبية مفعمة بقلق وأمل حيال تطوّرات آتية، وباقتناع بدا كأنه مفاجئ بأن السكوت المديد سابقاً كان من الأخطاء الفادحة التي عوّدت الغول على استسهال غزواته طالما أن شيئاً لا يزعجه، حتى ظنّ أن اعتداءاته مستحبّة. كان هناك وفد أو وفدان يمثّلان حال العرب المختَرَقين، إذ يتجنّب أعضاؤهما التحدث في ما بينهم عن الإشكاليات التي تفرزهما عن الدول العشرين الأخرى. لكن أحدهما يتميّز بأنه يحكي بثلاث "لغات" (إذا جاز التعبير) مع الآخرين، وفي العموميات والمجاملات فحسب، ولا يمكن الخوض في السياسة مع أفراد منه إلا بعيداً عن أنظار زملائهم لئلا تصل آراؤهم إلى مسامع الجنرال قاسم سليماني، مثلاً.

&


لا مبالغة في القول إن “إعلان شرم الشيخ"، رغم محاولته الإحاطة بمجمل المسائل، خرج أقل قوةً ووضوحاً من الحدث الكبير الذي سبقه ببضعة أيام. لذا بقي الانطباع بأن العرب يواجهون خصماً يفضلون تجهيله وعدم تسميته، أو يعطونه أسماء أدواته، فهو الميليشيات أو "الحشد الشعبي" في العراق و"الحوثي" في اليمن و"حزب الله" في سوريا ولبنان، حتى أنهم قد يفاجئون العالم اذا قالوا غداً إنه "إيران"، وقد لا يصدّقهم أحد، باعتبار أنهم لم يشيروا إليه سابقاً، ولا في أي شكوى إلى مجلس الأمن أو إلى أي مرجعية دولية أخرى، وحتى في الإعلان الصادر عن القمة لم يؤت على ذكره إلا في دعوته إلى إنهاء احتلاله للجزر الإماراتية الثلاث، وهو الموضوع الوحيد الذي استدعى كالعادة ردّاً من طهران، التي بدت غير معنية بأي مسألة أخرى.

مفهومةٌ طبعاً الأسباب السياسية وحتى القانونية لهذا التجهيل، لأن التصريح يلزم أي دولة باتخاذ ما يلزم من تدابير لمواجهة ما تعتبره عدواناً أو تدخلاً يتطلّب مساءلة أو محاسبةً أو ردعاً. لكن الحاصل أن العرب لا يرغبون في دفع المنطقة إلى صراع يزعزع استقرارها، أما إيران فلا تنفك تدفعها باتجاه الهاوية. وفي الحالات الخمس التي حصل فيها تدخلٌ سافر أو مستتر هناك اثنتان أتيح فيهما التدخل المضاد بطلب من الحكومتين الشرعيتين، الأولى في البحرين والثانية في اليمن. أما في سوريا، فإن النظام استنجد بإيران تجنباً للسقوط، وفي العراق تولّى زعماء الميليشيات تطبيق الأجندة الإيرانية، وفي لبنان فُرض استبداد الأمر الواقع باستخدام الترهيب والاغتيالات والتهديد بتفكيك الدولة. وفي كل الأحوال كان الشحن المذهبي هو السلاح الأمضى لهذه التدخلات. ومن خلال قمة شرم الشيخ تلقت إيران أيضاً رسالة مفادها أن العرب لا يسعون إلى مواجهة لكنهم بلغوا بالتأكيد نهاية الصبر والسكوت. والأهم في هذه الرسالة أنها لا تعترف بصراع "بين سنّة وشيعة" تعايشوا ويستطيعون أن يتعايشوا متجاوزين مخلّفات التاريخ، لكنها قلقة من تأجيج الصراع "بين العرب والفرس" وتصعيده كما لو أن الأمّتين عادتا إلى ما قبل الإسلام. وما دامت هذه الرسالة، وقد تكون الأخيرة، تغلّب مفاهيم المسالمة فإن الطرف المُطالَب بترجمتها إلى سلم واقعي هو ذاك الذي خرج من حدوده وأرضه ومجتمعه ليخترق بلاد الآخرين مستغلاً، تحديداً، عدم رغبتها في صراع يضعها بمواجهة إيران كـ “إسرائيل ثانية". ولكي تكون دعوات إيران إلى الحوار والتعاون صادقة وممكنة التحقيق فإن الخطوة الأولى لخلق مناخ سليم لمثل هذا الحوار يجب أن تأتي من جانبها. لا شك أن الاتفاق النووي المبدئي يفتح صفحة في المنطقة في سياق بالغ الصعوبة بسبب موروث الأعوام الأخيرة من تحوّلات سياسية واستشراء للتطرّف. وبين أبرز محاولات استشراف تداعيات الاتفاق ما قيل بأنه يمهّد لقبول إيران في الأسرة الدولية، أو لعودتها إليها، لكن هذا الاستحقاق سيبقى متعذراً، بل يمكن أن يصبح استحالة إذا استمرّت إيران على المنوال نفسه. فليس السؤال اليوم كما يطرحه مشايعو إيران: وما الذي يستطيعه العرب؟ بل ما يطرحه العقلاء وهو: إلى أين تمضي إيران في "مشروع" لا يمكنه أن يدوم إلا بالكراهية المستدامة وسفك الدماء؟
&